كتاب اعترافات قرصان اقتصادي من أهم الكتب الصادرة مؤخرا ويحتوي الكثير من المعلومات التي توضح أسباب سقوط الزعامات أو سقوط الدول أو قيام الثورات في العالم أجمع.. فكما يقول مؤلفه جون بركنز إنه يتمنى أن يغير المشاهد نظرته للأخبار بعد قراءة هذا الكتاب وقراءة ما بين سطور المقالات الصحفية، وأن يتساءل عن المعاني الأعمق في كل تقرير يسمعه من الراديو أو يشاهده على التلفزيون لأن معظم الصحف والمجلات ودور النشر تمتلكها وتستغلها شركات عالمية متحدة وعملاقة، وهي جزء من الكوربوقراطية قراصنة الاقتصاد الذين يسيطرون على كل وسائل ومنافذ الاتصال، وظيفتهم تكمن في إطالة عمر النظام الكوربوقراطي.
جون بركنز صاحب الاعترافات الخطيرة أوضح في كتابه كيف أن الولايات المتحدة الأمريكية دمرت اقتصاد بلاد العالم حتى تبقى تحت سيطرتها، يقول إن هذه الحكاية يجب أن تروى فنحن نعيش في زمن أزمات رهيبة، لمعرفة كيف وصلنا إلى ما نحن عليه ولماذا نواجه حاليا أزمات يبدو تخطيها صعبا ؟ هذه القصة يجب أن تروى لأننا فقط من خلال فهم أخطاء الماضي نستطيع استثمار الفرص المستقبلية بشكل أفضل.. هذه القصة يجب أن تروى بسبب أحداث 11 سبتمبر، وكذلك بسبب حرب العراق الثانية، ولأنه بالإضافة إلى الثلاثة آلاف شخص الذين ماتوا في سبتمبر على يد الإرهاب، هناك 24 ألفا ماتوا من المجاعات وتبعاتها.. وفي الحقيقة هناك 24 ألفا يموتون كل يوم لأنهم لا يستطيعون الحصول على طعام لسد الرمق. والأهم من ذلك كله في هذا الوقت بالذات ولأول مرة في التاريخ هناك أمة وحيدة لديها القدرة والمال والقوة لتغير كل هذا، إنها الأمة التي ولد فيها والأمة التي خدم باسمها قرصان اقتصاد.. إنها الولايات المتحدة الأمريكية. كتاب اعترافات قرصان اقتصادي صدر عن دار بريرت كوهلير ،أما طبعته باللغة العربية فقد صدرت عام 2008 عن دار الطناني للنشر ترجمة مصطفى الطناني، عاطف معتمد، وإيزابيل كمال. ويعد الكتاب الأفضل مبيعا وفقا لجريدة نيويورك تايمز .. اعترافات القرصان الاقتصادي جاءت في 275 صفحة و4 أجزاء وقد بدأ اعترافاته من عام 1963 حتى وقتنا الحاضر !
يقول بركنز إن الدهاء الذي تتسم به هذه الإمبراطورية الحديثة يتجاوز كل ما صنعه الفرسان الرومان والغزاة الإسبان وقوى الاستعمار الأوروبي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر فنحن قراصنة الاقتصاد على درجة عالية من الاحتراف، إذ إننا وعينا دروس التاريخ ! نحن اليوم لا نحمل سيوفا ولا نرتدي دروعا أو ملابس تعزلنا عن غيرنا، ففي بلاد مثل الإكوادور ونيجيريا وأندونيسيا نرتدي ملابس كالتي يرتديها المدرسون المحليون وأصحاب المحال التجارية، وفي واشنطن وباريس نبدو مثل موظفي الحكومة والبنوك متواضعين وعاديين نزور مواقع المشروعات ونتسكع داخل القرى الفقيرة نتظاهر بإنكار الذات ونحدث الصحف المحلية عن الأعمال الإنسانية العظيمة التي نؤديها. شرع بركنز في كتابة هذا الكتاب 4 مرات خلال العشرين سنة الماضية وفي كل مرة كان سبب قراره متأثرا بالأحداث الجارية مثل الاجتياح الأمريكي لبنما عام 1989، وحرب الخليج الأولى، والصومال، وظهور أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة.
ويعترف بأن التهديد أو الرشوة هو ما كان يوقفه عن الكتابة كل مرة، أقنعه البعض أكثر من مرة بالتوقف عن الكتابة منذ أن فكر بكتابته عام 1982 وكان بعنوان ضمير قرصان اقتصادي تكريما لرئيسي دولتين في أمريكا اللاتينية هما جايمي رولدس رئيس الإكوادور وعمر توريخوس رئيس بنما، فقد كانا من زبائنه وقد لقيا حتفاهما في حادثين مروعين وكانا مدبرين، وقد اغتيلا بسبب معارضتهما لتلك الشبكة من الشركات العملاقة والحكومات والبنوك التي تسعى إلى بناء امبراطورية عالمية، ويقول عندما فشلنا نحن قراصنة الاقتصاد في استمالة رولدس وتوريخوس تدخــل فريق آخر من القراصنة هم ثعالب المخابرات الأمريكية . أما تصميمه على كتابته هذه المرة فكان بسبب أحداث 11 سبتمبر، إذ إنه لم يعد يستطيع أن يقف مكتوف الأيدي وهو يرى القراصنة يحولون هذه الجمهورية إلى إمبراطورية تحكم العالم!
من هم قراصنة الاقتصاد؟ إنهم رجال محترفون ذوو أجور عالية عملهم هو أن يسلبوا بالغش والخداع ملايين الدولارات من دول عديدة في سائر أنحاء العالم.. يأخذون المال من البنك الدولي وهيئة المعونة الأمريكية وغيرها من مؤسسات المساعدة الأجنبية ليصبوه في صناديق الشركات الكبرى وجيوب حفنة من العائلات الثرية التي تسيطر على الموارد الطبيعية للكرة الأرضية، من خلال فبركة التقارير المالية وتزوير الانتخابات والرشوة والابتزاز والجنس والقتل.. يلعبون لعبة قديمة قدم عهد الإمبراطوريات، لكنها تأخذ أبعادا جديدة ومخيفة في هذا الزمن.. زمن العولمة!! الوسيلة التي يستخدمها قرصان الاقتصاد هي نماذج التنبؤ التي يستعان بها لدراسة تأثير استثمار مليارات الدولارات في بلد ما على النمو الاقتصادي المتوقع لسنوات قادمة ولتقويم المشروعات المقترحة.. فنمو الناتج الإجمالي القومي قد يكون نتيجة استفادة أقلية من المواطنين النخبة على حساب الأغلبية بحيث يزداد الثري ثراء ويزداد الفقير فقرا، ورغم ذلك فإنه من الناحية الإحصائية البحتة يعتبر تقدما اقتصاديا.. ورفاهية وثراء هذه النخبة ترتبط بالتبعية طويلة المدى للولايات المتحدة. وأشار بركنز إلى أنه عندما يفشل الخبراء الاقتصاديون في مهمتهم يبدأ ثعالب المخابرت الأمريكية في تكملة الطريق وهم نوع مؤذ من رجال العمليات التي وصفها بالـالقذرة، أما إذا فشل هؤلاء فهنا تتدخل الجيوش وهذا ما حدث في العراق ! يقول بركنز إنه والخبراء الاقتصاديون قاموا بتطويع اللغة لتغليف استراتيجيتهم في النهب الاقتصادي وذلك باستخدام مفاهيم مثل الحكم الرشيد وتحرير التجارة وحقوق المستهلك، بحيث لا تصبح السياسات الاقتصادية جيدة إلا من خلال منظور الشركات الكبرى.. وأما الدول التي تقتنع بهذه المفاهيم فهي مطالبة بخصخصة الصحة والتعليم وخدمات المياه والكهرباء أي أن تبيعها للشركات الكبرى وهي مضطرة بعد ذلك إلى إلغاء الدعم وجميع القيود التجارية التي تحمي الأعمال الوطنية. هذا الكتاب هو اعترافات قرصان اقتصاد كان عضوا في مجموعة صغيرة نسبيا والآن زاد عدد القراصنة الذين يتبخترون على حد تعبيره في ممرات مكاتب شركات مثل مونسانتو، جنرال إلكتريك، نايكي، جنرال موتورز، وول مارت وتقريبا في مكاتب جميع الاحتكارات الكبيرة بالعالم وهم يؤدون أدوارا مشابهة وربما يحملون ألقابا ألطف!
كيف أصبح قرصانا اقتصاديا؟ جون بركنز كان طفلا وحيدا في عائلة من الطبقة المتوسطة ولد عام 1945 في هانوفر نيوهامبشير وكان والداه من أوائل من التحق بالجامعة من عائلتيهما بفضل منحة دراسية، عملت والدته مدرسة لغة لاتينية في المدارس الثانوية وشارك والده في الحرب العالمية الثانية ضابطا برتبة ملازم في البحرية الأمريكية وكان مسؤولا عن حماية ناقلات البترول التجارية في المحيط الأطلسي، ثم التحق بالعمل في وظيفة مدرس لغات بمدرسة تلتون الداخلية للأولاد. عائلته كانت في إحتياج دائم للمال، بالإضافة إلى تشدد والده ووالدته في آرائهما وفرضها عليه. عندما بلغ بركنز الـ 14 من عمره تلقى منحة دراسية الى مدرسة تلتون وبناء على رغبة والده ابتعد عن أي شيء له علاقة بالبلدة ولم ير أصدقاءه بعد ذلك نهائيا، يقول بركنز: عندما كان يذهب رفاقي الجدد لزيارة عائلاتهم كنت أبقى وحيدا في المدرسة، ولم تكن له صديقة أيضا، كان وحيدا ومحبطا، كان يغلي بداخله من تشدد والده، إلا أنه لم يتمرد بل أفرغ كبته في التفوق الدراسي وأصبح قائد فريقين من الفرق الرياضية ومحرر مجلة المدرسة، كان مصمما على التميز بين زملائه الأغنياء. في السنة الاخيرة حصل على منحة رياضية في جامعة براون ومنحة تعليمية في جامعة ميدلبيري، إلا أن والديه أيضا فضلا أن يذهب إلى جامعة ميدلبيري وهو كان يفضل المنحة الرياضية. حتى في جامعة ميدلبيري كان فقيرا ، بينما معظم من حوله أغنياء، كان يفتقر للثقة بنفسه ويشعر أنه من طبقة أقل. توقف بركنز عن الدراسة في منتصف السنة الجامعية الثانية وقرر ترك الجامعة وكانت هذه اللحظة الفاصلة في حياته فقد تمرد على والده!.. انتقل إلى بوسطن وحصل على وظيفة مساعد شخصي لرئيس التحرير في مؤسسة هيرست بجريدة ساندي ادفرتايزر، ولتفادي ذهابه إلى التجنيد التحق عام 1965 بكلية إدارة الأعمال في جامعة بوسطن. تزوج المرة الأولى عام 1967. ثم واجه إحتمالية الذهاب إلى فيتنام ولم تعجبه الفكرة وأنقذه والد زوجته بأن وجد له وظيفة في وكالة الأمن القومي ان اس إي تؤهل من يشغلها لتأجيل الخدمة العسكرية. أجريت له عدة اختبارات في الوكالة، وكانت الاختبارات تركز على نشأته وسلوكه تجاه عائلته والعواطف التي تولدت من واقع أنه نشأ فقيرا واستطلعوا إحباطاته نظرا لافتقاده للمرأة والجنس والمال وما نتج عن ذلك من عيشه في عالم من الأوهام والخيال. وكانت كل هذه السلبيات من وجهة نظر الوكالة إيجابيات للمهمة، فهم كانوا يرغبون في مثل هذه الصفات مثل تمرده على والده وقدرته على الانسجام مع الأجانب، وتعلقه بالنساء، وطموحه لأن يحيا حياة رغيدة. قبل بالوظيفة وبدأ التمرين على فنون الجاسوسية وكان المطلوب منه قبل الذهاب إلى أي بلد أن يقرأ الكثير من الكتب والمعلومات عنها والتقارير الاقتصادية الصادرة من البنك الدولي والأمم المتحدة وغيرها.
انضم إلى فيالق السلام التي تحتاج إلى متطوعين قادرين على فهم أهل البلاد التي يذهبون إليها وعادة تكون هذه المناطق وفيرة بالبترول.. فكانت أول رحلة له إلى الإكوادور عام 1968. وكانت وظيفته في الإكوادور أن يكتب تقارير اقتصادية عن واقع البلد تتضمن تحليلا مستقبليا للتطور السياسي والاقتصادي. عاد إلى بوسطن ليعين عام 1971 في وظيفة محلل اقتصادي بشركة ماين وكان في الـ 26 من عمره. يقول بركنز: الظاهر أنهم كانوا يتعاقدون معي كمحلل اقتصادي لكن تجلى فيما بعد أنهم يتعاقدون معي كقرصان اقتصادي. كانت السيدة كلودين مسؤولة عن تدريبه كقرصان اقتصادي، وقد زودت بالطبع بنقاط ضعفه فكانت مناوراتها معه خليطا من الإغراء الجسدي والتلاعب اللفظي !
يقول بركنز في نهاية كتابه إن قدرة الولايات المتحدة على طبع الدولارات تمنحها قوة هائلة تستطيع معها الاستمرار في تقديم القروض التي لن ترد أبدا، وأيضا تتراكم عليها الديون للآخرين. في عام 2003 تجاوز دين الولايات المتحدة القومي رقما مذهلا فاق 6 تريليونات دولار وكانت هناك مؤشرات بأن يصل هذا الدين إلى 7 تريليونات دولار قبل نهاية العام. وهو ما يعني أن كل مواطن أمريكي مدين بـ24 ألف دولار أمريكي، وكثير من هذه الديون اقترضتها الولايات المتحدة من دول آسيا خاصة من اليابان والصين. وما دام العالم يقبل الدولار عملة نقدية عالمية فإن هذه الديون الزائدة عن الحد لن تمثل عقبة كبيرة للكوربوقراطية قراصنة الاقتصاد لكن إذا استطاعت عملة نقدية أخرى أن تحل محل الدولار وإذا طالب بعض دائني أمريكا مثل اليابان والصين بتحصيل ما لهم من ديون فإن الموقف سيتغير بشكل كارثي. اليورو بالفعل موجود على المسرح المالي العالمي ويغدو أكثر قوة ومكانة، وإذا قررت منظمة أوبك استبدال اليورو بالدولار كعملة نقدية فستهتز أركان الامبراطورية الأمريكية.
نادى بركنز من خلال صفحات كتابه بأهمية يقظة الضمير من أجل اصلاح العالم.. ولكن السؤال المطروح هو لماذا استيقظ ضميره بعد أكثر من 40 عاما وبعد أن استفاد من هذه القرصنة الاقتصادية استفادة كبيرة على جميع المستويات ؟ وهل يكفي تدوين إعترافاته في كتاب حتى تسامحه الإنسانية على الجرائم التي ارتكبها بحق العالم اقتصاديا؟ ما أود الإشارة إليه هنا هو أن بركنز أسس مؤخرا جمعية بعنوان الحالمون بالتغيير وهي جماعة مكرسة لتغيير وعي الأفراد والوعي العالمي لكي تلعب دورا ملهما لعدد من الأفعال التي تسهم في تغيير العالم ومنها مساعدة السكان الأصليين اقتصاديا والحفاظ على القيم الثقافية لمجتمعاتهم.. فهل نفترض حسن النية من وراء هذه الجمعية، أم أنها وجه آخر لنوع جديد من القرصنة الاقتصادية ؟!
حقائق
تنفق الولايات المتحدة أكثر من 87 مليار دولار لتقود حربا في العراق بينما تقدر الأمم المتحدة بأن أقل من نصف هذا المبلغ يمكنه تأمين المياه النظيفة والتغذية الكافية والخدمات الصحية والتعليم الأساسي لكل إنسان على وجه الأرض !! ثم نتساءل لماذا يهاجمننا الإرهابيون؟
يكشف بركنز عن أن مديونية العالم الثالث وصلت إلى 2.5 تريليون دولار وأن خدمة هذه الديون بلغت 375 مليار دولار سنويا خلال عام 2004 وهو رقم يفوق ما تنفقه كل دول العالم الثالث على الصحة والتعليم ويمثل 20 ضعفا لما تقدمه سنويا الدول المتقدمة من مساعدات خارجية.
تنشر بالاتفاق مع فوربس الشرق الاوسط