اقتصادنا يا تعبنا.. الحلقة 29..
بدأت المعجزة البرازيلية أولى نجاحاتها التى حققتها فى مجال التنمية الاقتصادية فى الفترة ما بين 1968 – 1973؛ بعد الانقلاب العسكرى 1964، حيث كان لدى النظام الجديد اهتمام كبير بتطوير الاقتصاد والحياة السياسية فى البرازي، حيث عين المجلس العسكرى حينها حكومة تكنوقراط يرأسها الاقتصادى المخضرم البروفيسور Delfim Netoo رائد التنمية الاقتصادية البرازيلية ووزير المالية آنذاك.
فخلال هذه الفترة الذهبية للاقتصاد البرازيلى حقق معدل النمو نتائج فاقت توقعات الاقتصاديين وخبراء التنمية، حيث اقترب هذا المعدل من 10%.. وانعكس ذلك إيجابيا على قطاع الصناعة فشهدت الصادرات البرازيلية ارتفاعا كبيرا بينما اتخذت حكومة التكنوقراط إجراءات سريعة وفعالة من أجل تطوير وتحسين المنظومة المالية للدولة وجعلها قادرة على استقبال الاستثمارات وتسهيل العمليات المالية بعدها أصبحت البرازيل إحدى الوجهات المالية والمراكز الاقتصادية ليس فقط فى دول أمريكا اللاتينية بل وفى العالم كله.
بفعل هذ النمو السريع والأداء الجيد للاقتصاد البرازيلى كان المجتمع البرازيلى يشهد تطورات جذرية موازية للطفرة الاقتصادية فخلال سنوات قليلة تحولت البرازيل من بلد يعيش 55% من سكانه فى المناطق الريفية ذات الظروف المعيشية الصعبة والقاسية إلى بلد يعيش 67% من سكانه فى مدن حضارية متطورة ذات بنية تحتية قوية ومزودة بجميع ضروريات الحياة من جامعات وشوارع وكبارى ومستشفيات.
وتميزت البرازيل خلال الفترة من سنة 1950 وحتى سنة 1980 بتبنى سياسة «التصنيع المحلى للإحلال محل الواردات، واتبعت الحكومة سياسة جمركية حمائية والمشاركة المباشرة للشعب فى المشروعات العامة.. وقد شهد الاقتصاد البرازيلى نموا مطردا خلال الفترة من سنة 1950 وحتى عام 1980، مع التنويع فى القطاع الصناعى -غير أن ندرة رأس المال كانت تتطلب الاستعانة برءوس الأموال الأجنبية…
ففى فترة سبعينيات القرن العشرين فى خلال تلك الفترة تبنت الحكومات العسكرية سياسات رأسمالية دافعت فيها عن مصالح رجال الأعمال وأصحاب الشركات، دون الاكتراث نهائيا بالطبقات الفقيرة وقامت بدور حامى البلاد من الوقوع فى خطر الشيوعية وتكرار النموذج الكوبي، وشكلت تحالفا قويا مع الرأسمالية الوطنية والإدارة الأمريكية.. كما عمدت إلى الاقتراض من الخارج لتنفيذ مشروعاتها التنموية، مما خلف ديونا اقتصادية كبيرة شكلت عبئا على الأجيال اللاحقة… حيث استمرت البرازيل فى الاعتماد على الديون الخارجية – حتى حدثت أزمة الديون فى الثمانينيات من القرن العشرين.. وواجهت البرازيل مثلها مثل دول أخرى فى العالم الثالث أزمة الديون خاصة بعد السياسات الاقتراضية المتهورة التى انتهجتها الحكومات العسكرية، ومن ثم شهدت فترة الثمانينات عدة محاولات للسيطرة على معدلات التضخم المرتفعة كما شهدت تراجعا فى معدلات النمو.
وجاءت فترة التسعينيات من القرن العشرين لتشهد خلالها تراجع الجيش تماما عن الحياة السياسية واتمام الانتقال السلمى والتدريجى للسلطة إلى حكومات مدنية متعاقبة، ثم انتهجت الحكومات المدنية خلال التسعينيات سياسات اقتصادية رأسمالية، حيث تبنت سياسات الانفتاح الاقتصادى وسياسات السوق وعمت البرازيل حمى الخصخصة والتحرير الاقتصادى كما كان الحال فى العديد من دول العالم الثالث التى اتبعت برامج صندوق النقد والبنك الدوليين، وهو ما أدى إلى تقدم فى مؤشرات الاقتصاد الكلى ظاهريا، ولكن ما لم يكن يعنى ذلك تقدما فعليا، بمعنى أن سياسات الانفتاح الاقتصادى أصابت المنتجين المحليين بخسائر فادحة مما أدى إلى مزيد من البطالة وتراجع حاد فى الإنتاج المحلى ومن ثم تراجع معدلات التصدير وكذلك أيضا ارتفاع معدلات الفقر التى كانت مرتفعة بالأساس..
وعليه، فقد أثبتت تجربة التسعينيات فى البرازيل والعديد من دول العالم الثالث أن استقرار الاقتصاد الكلى لا يعنى بالضرورة نموا حقيقيا فى الاقتصاد والإنتاج ولا يعنى تقدما فى مستوى دخل الأفراد وحل المشكلات الاقتصادية مثل البطالة ومستويات الفقر المرتفعة ومشكلات الدين العام والتضخم وغيرها.
وجاء كاردوسو الرئيس الأسبق لـ لولا دى سيلفا (1995-2002) بمحاولات عديدة لإصلاح الاقتصاد البرازيلي، حيث وضع خطة «الريال» ـ اسم العملة البرازيلية ـ التى كان هدفها دمج الاقتصاد المحلى فى الاقتصاد العالمي.
واتجهت محاولاته الإصلاحية الى تبنى سياسات السوق الحر والاستدانة الخارجية، حيث ارتفع الدين الخارجى من 150 إلى 250 مليار دولار خلال فترة رئاسته، وقد أدى هذا التضخم فى الدين إلى أزمة انعدام الثقة فى الاقتصاد البرازيلى سواء من الجهات الدولية المانحة أو المستثمرين المحليين والأجانب.
كما اتجهت سياسات «كاردوسو» أيضا نحو طرح سندات الدين الداخلى بفوائد مرتفعة مما شجع المستثمرين على التخلى عن الاستثمار المنتج لصالح شراء السندات الحكومية حتى ارتفع الدين الداخلى بنسبة 900%، وهكذا انحرفت محاولاته إلى مزيد من الأعباء على الأجيال القادمة ولم تحقق تقدما فى الإنتاج بل تقدما فقط فى قطاع المال وزيادة فى الديون وتعقيد اكبر لأزمة الثقة، وبالطبع استمرار الأوضاع الاقتصادية المتردية للطبقات الفقيرة.
وقبيل انتهاء فترة رئاسته وبالتحديد فى يوليو 2002 سعى «كاردوسو» سعيا مستميتا للحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي، متعهدا باتخاذ خطوات جادة للتصدى لانعدام الثقة.
وفى أغسطس من نفس العام رد الصندوق بأنه على استعداد لإقراض البرازيل قرضا بـ30 مليار دولار ولكن عقب الانتخابات الرئاسية ومعرفة توجهات الرئيس الجديد، وهكذا ترك «كاردوسو» الحكم مخلفا وراءه مشكلات اقتصادية كبرى تلقى بظلال الإفلاس على البلاد، على الرغم من محاولاته الحثيثة لحل هذه المشكلات…
يمكن القول إن الطفرة الاقتصادية الحقيقية للبرازيل – والتى ساعدت على نجاحها الديمقراطية السياسية بعد مغادرة الجيش للسلطة فى 1985 – بدأت بعد أن تسلم (لولا دا سلفيا) الرئاسة الأولى للبرازيل فى يناير 2003… فماذا فعل لولا دى سيلفا لينهض بالبرازيل بعد كل هذه المشكلات؟؟… للحديث بقية فى الحلقة القادمة..
وما نبغى إلا إصلاحا..