ما زال الاقتصاد السرى يسبب صداعاً مزمناً فى رأس الحكومة، وما زالت الحكومة تكافح هذه الظاهرة المدمرة للاقتصاد الرسمى، رغم الإجراءات التى تنفذها على عدة أصعدة.
اخترت أن أكتب عن هذا الموضوع، بعد أن تناولت وسائل الإعلام، مؤخراً، أنباء عن صدور قرارات بتغيير شكل العملة المحلية المصرية من أجل تضييق الخناق على الاقتصاد السرى، ومكافحة الفساد، وحصر السيولة الموجودة خارج الجهاز المصرفى.
غير أن بعد مرور عدة أيام من احتدام الجدل، نفى البنك المركزى صحة تلك الأنباء جملة وتفصيلاً، مؤكداً أنه ليس هناك أى نية على الإطلاق لتغيير شكل العملة.
يُعرف الاقتصاد السرى الذى يطلق عليه، أيضاً، الاقتصاد الموازى أو اقتصاد الظل بأنه الاقتصاد غير المدرج فى الناتج المحلى والدخل القومى، ولا تعلم الدولة بدقة بيانات الأنشطة التى يمارسها هذا القطاع.
تندرج تحت تلك الأنشطة الأعمال الحرفية البسيطة، والدروس الخصوصية، والتعامل فى البضائع المهربة، والمصانع والورش الصغيرة غير المرخصة، وأعمال المقاولات الصغيرة والصيانة. هذه الأنشطة غالباً ليس لها سجل رسمى ولا تدفع الضرائب، كما أنها غير خاضعة للرقابة وضبط الجودة وتحقيق المواصفات. لكنَّ هذا التعريف يستبعد الأنشطة غير القانونية مثل الأنشطة الإجرامية أو الاتجار بالبشر أو التهريب أو الاتجار فى المخدرات، كما يستبعد الأنشطة الأخرى غير المعلنة مثل الأنشطة الخيرية والأعمال المنزلية المدرة للدخل.
ينبغى الإشارة إلى أن معظم البلدان فى جميع أنحاء العالم لديها اقتصادات موازية، لا سيما فى الدول النامية. ولاقتصاد الظل آثار متنوعة على الحياة الاجتماعية والاقتصادية للدولة، ما يهدد استقرار البلد وآفاق نموه. ويخلق اقتصاد الظل حلقة مفرغة من الزيادة المستمرة فى الضرائب، ويجذب إليه رأس المال البشرى والموارد الأخرى من الاقتصاد الرسمى، كما يؤدى إلى تشوهات فى الإحصاءات الرسمية للدولة، ما يؤثر على نجاح السياسات الرسمية.
وبما أنه لا توجد إحصائيات رسمية ولا تقديرات اقتصادية موثوقة لحجم الاقتصاد السرى فى مصر، فإن فشل السياسات الحكومية لتعزيز النمو والاستقرار يمكن أن يرجع بشكل كبير إلى نقص المعرفة حول حجم الاقتصاد السرى، وخصوصاً أنها أساسية لصانعى السياسات من أجل التمكن من استعادة الاستقرار المالى ودفع عجلة النمو الاقتصادى.
وبالرجوع إلى دراسة أجراها مركز دراسات الشرق الأدنى والشرق الأوسط فى عام 2015، أشارت إلى أن الاقتصاد السرى فى مصر شكل أكثر من 35% من الناتج المحلى الإجمالى مع بداية عام 1976، وانخفض إلى 23% من الناتج المحلى الإجمالى فى عام 2013. ومع ذلك نسمع فى الإعلام البعض يدعى بغير علم أن هذه النسبة أكبر بكثير وتصل إلى 70%!
فى الدول النامية مثل مصر تفضل الكيانات الصغيرة والأفراد ممارسة الأنشطة بأسلوب غير رسمى من أجل تجنب الضرائب وتخفيض تكاليف الإنتاج لتكون قادرة على بيع منتجاتها بأسعار أقل مستغلين تلك الميزة التنافسية بالمقارنة بالاقتصاد الرسمي. لذلك كلما زاد العبء الضريبى، كان حجم الاقتصاد السرى أكبر.
ومن أساليب التقليل من انتشار الاقتصاد السرى التطبيق الجيد للقانون، وضمان حقوق الملكية وإنفاذ العقود.
ومن ناحية أخرى، فإن فساد الجهاز الإدارى والبيروقراطية التى يتبعها الموظفون الحكوميون إلى جانب ضعف سيادة القانون يدعم من ازدهار اقتصادات الظل لتصبح أكثر انتشاراً ونفوذاً، حتى إنها يمكن أن تنافس بعض قطاعات الاقتصاد الرسمى، وتسيطر على بعض الأسواق. فكلما كانت المؤسسات الحكومية أقل بيروقراطية وتلتزم بتطبيق القانون، كان حجم الاقتصاد السرى أقل.
تشير بعض الدراسات إلى تحليل أسباب انتشار الاقتصاد السرى وتربطها بعوامل مثل حجم القطاع الزراعى ومستوى البطالة ومستوى الأعمال الحرة. فكلما كان القطاع الزراعى أكثر انتشاراً، وكلما ارتفع مستوى البطالة، وكلما ارتفع معدل الأعمال الحرة، زاد حجم اقتصاد الظل.
وعلى الرغم من كل الجوانب السلبية للاقتصاد السرى، يرى بعض الباحثين، أن هناك علاقة إيجابية بين نمو الاقتصاد السرى والاقتصاد الرسمي. قد يسمح الاقتصاد السرى للمواطنين الفقراء بإيجاد طرق لإنتاج وبيع المنتجات الرخيصة كوسيلة لتوليد الدخل.
ومن هنا، يُقال إن اقتصاد الظل ينمو جنباً إلى جنب التوسع فى الأنشطة الاقتصادية؛ لأن الطلب المتزايد فى الاقتصاد الرسمى يمتد إلى الاقتصاد غير الرسمى، ما يؤدى إلى قدر أكبر من القدرة التنافسية وريادة الأعمال. فالاقتصاد السرى لا يٌنظر إليه بالضرورة على أنه عدو للاقتصاد الرسمى، فهو يخلق تأثيرات محفزة لأن الدخل المكتسب بشكل غير رسمى يٌنفق لاحقاً فى الاقتصاد الرسمى. كما أن الاقتصاد السرى يضيف ديناميكيات إلى الاقتصاد الرسمى عن طريق إنشاء أسواق وخدمات صغيرة متنوعة لا توفرها اقتصادات الأعمال الرسمية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لاقتصاد الظل أن يعمل كملاذ أخير لإيجاد فرص فى الأوقات الصعبة، على سبيل المثال، خلال فترات الركود والأزمات. وقد انطبق ذلك بالفعل فى مصر، حيث كان الاقتصاد السرى بمثابة إسفنجة تمتص جميع الموظفين الذين تم تسريحهم نتيجة عدم الاستقرار الاقتصادى والسياسى الذى حدث فى مصر بعد قيام الثورة فى 2011.
ولكى نختتم هذه المقالة، نؤكد ضرورة قيام صانعى السياسات بتحديد العوامل الرئيسية التى تؤثر على الأسباب التى تدفع المواطنين لتفضيل العمل بأسلوب غير رسمى «فى الظل» من أجل أن يتمكنوا من توجيه السياسات الاقتصادية والإصلاحات بشكل صحيح، وإضفاء الطابع الرسمى على اقتصاد الظل. والأهم من ذلك هو أن على واضعى السياسات أن يركزوا على الإدارة الرشيدة وكفاءة عمل المؤسسات الحكومية التى تتعامل مع المواطنين وصغار المستثمرين من خلال التأكد من مدى الالتزام بتنفيذ القانون والإجراءات دون بيروقراطية أو تكاليف غير ضرورية يتحملها المواطن، وكذلك دعم الشفافية التى من شأنها تقليل الفساد. ومن ثَمَّ سوف يستعيد المواطن الثقة فى المؤسسات الحكومية وفى النظام العام للدولة بشأن قدرته على وضع استراتيجيات فعّالة للحد من حجم اقتصاد الظل المصرى.