يعد استخدام القوات الروسية فى سوريا أهم تدخل عسكرى مباشر فى الشرق الأوسط منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهذا من شأنه زعزعة الاستقرار أكثر فى منطقة تتصف بسوء الحكم، والطائفية، والتنافسات الإقليمية، والحرب الأهلية الممتدة منذ 4 سنوات والتى قتلت مئات الآلاف من الأشخاص وهجرت الملايين.
وتعد مقامرة الرئيس الروسى، فلاديمير بوتين، أحدث العلامات على أن النظام العالمى المترسخ منذ انتهاء الحرب يتهاوى بعد 70 عاما، ولا تزال الولايات المتحدة – الدولة التى دار حولها نظام ما بعد الحرب – تمتلك يدًا قوية، ولكن لا تستغلها كثيرًا.
وعلى مدار الخمسة عشر عاما السابقة، تخبط نهج أمريكا العالمى، واتبع الرئيس جورج دابليو بوش استراتيجية استعراض العضلات بهدف فرض الإرادة الأمريكية على العالم، وغزوه للعراق كان أحد الأهداف الشخصية التى لا تُضاهى فى التاريخ.
وعلى النقيض، اتبع الرئيس باراك أوباما سياسة خارجية قائمة على الواقع، ولكنه لم يكتف فقط بتعلم الدروس من فترة رئاسة بوش، بل أفرط فى الحذر، وأدت عدم رغبته للتصرف بحزم فى الأوقات الحاسمة إلى إضعاف عامل الردع فى القوة الأمريكية.
ويثير التاريخ الحديث للسياسة الأمريكية – سواء أخطاؤها أو قدرتها على التغير – التساؤلات بشأن إذا ما كانت واشنطن ستواصل التصرف كمهيمن عالمى أم لا، وأقول لهؤلاء الذين يتلذذون باحتمالية أن تصبح الولايات المتحدة قوة متواضعة: «احترسوا من أمنياتكم»!.وفى نفس الوقت، يبدو أن بقية الغرب مستعد لاعتزال المسرح العالمى، وهذا لا يرجع إلى شيخوخة السكان فى معظم الدول الغربية، ولكن منذ عقود، تخلت أوروبا عن سياسات القوة فى سبيل تشكيل اتحاد أكثر اكتمالاً وسلامًا، وشجعها على ذلك الفشل فى أفغانستان والعراق، بجانب المشكلات الاقتصادية والسياسية فى الكتلة الأوروبية.
حتى بريطانيا قلصت طموحاتها، وتراجعت عن الخط الأمامى فى سياستها الخارجية، وخفضت الميزانية المخصصة للقوات المسلحة، ووزارة الخارجية، ووكالة «بى بى سى وورلد سيرفيس»، وسوف يقضى البريطانيون الأعوام القادمة فى الجدال بشأن بقاء اسكتلندا أو استقلالها عن المملكة المتحدة، وبشأن إذا ما كان ينبغى على بريطانيا ترك الاتحاد الأوروبى، وهذا لن يترك لها الكثير من الوقت للتفكير فى العالم الخارجى.
وفى الوقت الذى تنسحب فيه الدول الغربية، يظهر فى كل مسرح عالمى هام – أوروبا، والشرق الأوسط، وآسيا – منافسون أقوياء للنظام الليبرالى.
وتحاول روسيا ترسيخ منطقة من النفوذ لها فى زاويتها من أوروبا واستعادة مركزها كلاعب عالمى لا غنى عنه، وتشمل تكتيكات بوتين التخريب والدعاية، والأكثر إزعاجًا هو الاستيلاء على الأراضى بالقوة، فضم روسيا لإقليم القرم فى 2014، خرق المبدأ الرئيسى لنظام سيادة الدول العالمى، أما عملياته فى سوريا، فهى عصا فى عين الأمريكيين.
وفى نفس الوقت، تستغل إيران الاضطرابات فى الشرق الأوسط لزيادة نفوذها، ويعد الاتفاق الدولى الذى تم إبرامه العام الجارى أفضل خيار لإعاقة برنامج طهران النووى، ولكن إذا كانت الدولة قادرة على القيام بتلك كل المشكلات تحت قبضة العقوبات الغربية، فكيف ستتصرف بعد سقوط العقوبات؟ وعلى المدى الطويل، يعد تحدى بكين للنظام العالمى هو الأكثر خطورة لأن الثروة والنفوذ يتحولان نحو الشرق، أى نحو آسيا، وتثير نجاحات الصين فى الأربع سنوات الماضية الدهشة، وتبنى الدولة ثقلا اقتصاديا يليق بحجمها الكبير، ومع ذلك، فإن سياستها الخارجية غير متكافئة بالمرة، وتتخبط بين البناءة والقتالية.
والاختلافات بين هذه الدول الثلاث – روسيا وإيران والصين – كبيرة بقدر أوجه الشبه بينهم، فلا واحدة منهم تريد الحلول محل الولايات المتحدة كأكبر قوة فى العالمى، وتكمن ميزتهم فى حقيقة أنهم يركزون على زيادة نفوذهم إقليميًا بينما تنشر واشنطن قواها حول العالم.
وأدى تراجع ثقة الغرب، ونهوض منافسين للقوة العظمى، إلى صعوبة معالجة المؤسسات الدولية للمشكلات العالمية، ووصلت الأمم المتحدة للعام السبعين على تأسيسها، وبدأ يظهر عليها علامات التقدم فى السن.
فمن بين أكثر المشكلات خطرًا فى رعاية الأمم المتحدة هى التغير المناخي، وقالت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية إن 2014 كانت أسخن الأعوام على الإطلاق، وتم تسجيل 14 من بين أكثر 15 عاما سخونة على الإطلاق فى القرن الجارى، ونحن نعلم أن مخاطر الاحتباس الحرارى ستكون قاسية، إلا أن المؤتمرات المتتابعة للأمم المتحدة فشلت فى الاتفاق على حدود ملزمة لانبعاثات الغازات الدفيئة.
وتتكرر نفس القصة عندما يتعلق الأمر بالترتيبات الدولية الأخرى، فعلى سبيل المثال، سحقت الهجرة الجماعية من الشرق الاوسط مؤخرًا نظام حماية اللاجئين، ومن الواضح أنه لم يعد يخدم مصالح الدول المستقبلة أو اللاجئين، ومع ذلك، لا يوجد أى بوادر فى الأفق لتعديله.
ولم يكن التعاون الدولى مهما ـ أو أكثر ندرة – من قبل مثل ما هو الآن، وبالفعل صنع جيل دين آنشستون، وزير خارجية أمريكا فى عهد الرئيس هارى ترومان، عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن بعد 70 عاما، هذا العالم يقع فى مشكلة، وهناك شعور متنامٍ بأن هذا النظام الذى خدم العالم جيدًا ينهار.
بقلم: مايكل فوليلاف
إعداد: رحمة عبدالعزيز
المصدر: صحيفة «فاينانشال تايمز»