بقلم : معتز بالله عبد الفتاح
لمست شعورا عاما بأن مصر وكأنها فى حالة حداد عام، وكأن عزيزا مات. وهو ما أتفهمه أن الثورة الغالية التى ضحى من أجلها الكثيرون لم تأت لهم بالضرورة بمن كانوا يتمنون فى السلطة أو بالدستور الذى كانوا يحلمون به. وأنا لا أستهدف أن أنكر على أى صديق إحساسه بالضيق، ولكن أحاول أن أوضح أن ما نحن فيه ليس بعيدا عما مرت به دول كثيرة أخرى. والأهم فى نجاح الثورة ليس أنها أتت بأشخاص فى السلطة يمثلوننا، ولكنها أعطتنا الحق فى معاقبة هؤلاء وتغييرهم فى انتخابات حرة نزيهة تعددية تنافسية دورية مباشرة سرية. وعلينا أن نضمن أن كل انتخابات تكون أكثر تحقيقا لهذه المعايير مقارنة بسابقتها.
الأيام السابقة كانت صعبة وسنشاهد أياما صعبة فى المستقبل كذلك. ولكننا سننتصر فى النهاية بإذن الله. لماذا؟ فلنفكر فى الأمر من زاوية أن الدولة كانت تحكم بقواعد مؤسسية (أو شبه مؤسسية) تكبح جماح تطلعات الناس وتوقعاتهم. هذه المؤسسات اختفت، الآن الناس يتصرفون وفقا لتطلعاتهم الذاتية والشخصية لمدة عام كامل مع إدارة ساذجة أجلت عملية ظهور مؤسسات بديلة تستطيع أن تضع قواعد وقنوات تضبط التوقعات والتطلعات.
ليبيا واليمن فيهما مشاكل أعتى من مشاكل مصر لأنها مرتبطة برفض الكثيرين ممن ثاروا على القذافى وعلى عبدالله صالح أن يسلموا أسلحتهم وأن يقبلوا بمنطق الدولة ذات السلطة المركزية القوية. وهذه معضلة أعتى من معضلة مصر لأن المصريين يتطلعون لسلطة مركزية قوية بشرط أن تكون عادلة. حتى الثوار يبحثون عن دولة قوية، بشرط أن تكون قوية فى العدل، وأن تكون رادعة بشرط أن تكون رادعة فى الحق.
ولا شك أن تونس قد عبرت خطوة مهمة بانتخاب المجلس التأسيسى، ليس لعبقرية المسار، ولكن لالتزام السلطة الحاكمة به قدر استطاعتها. وإن كان لا شك أن الأكثر خبرة بالشأن التونسى لديهم تخوفات حقيقية من أن الانقسام الطبقى أصبح له انعكاسات سياسية بحكم أن من فى قمة الهرم الطبقى أصبحوا محسوبين على النظام السابق وأن الطبقتين الوسطى والدنيا أقرب إلى الثوار. وهى مسئولية الدولة التونسية أن تدير مناقشات وأن تتبنى سياسات تؤدى إلى عقد اجتماعى جديد على أسس المواطنة الكاملة.
الديمقراطية مكلفة للغاية لأنها نقل لقيم ومؤسسات الدولة من مسار إلى مسار آخر مغاير تماما. ولنتذكر أن الولايات المتحدة فى عام 1779 (أى بعد 3 سنوات من ثورتهم) عانت معدل تضخم بلغ 400 بالمائة وأن الدخل المتوسط للفرد الأمريكى انخفض بمقدار النصف خلال الأعوام الخمسة عشر التالية للثورة. وكادت تشهد أمريكا، قبل أن تصبح الولايات المتحدة الأمريكية، ما يشبه الحرب الأهلية. ولا ننسى أن ضحايا الثورة الفرنسية كانوا كثيرين لدرجة أن بعض المؤرخين المعاصرين لها كانوا يسمونها «ثورة المقصلة» (the guillotine revolution) بسبب كم الدماء التى أهدرت وأريقت آنذاك.
بل إن إندونيسيا وبوليفيا والسلفادور شهدت انهيارات اقتصادية حادة بعد ثوراتها مباشرة لدرجة أن السلفادور كانت على شفا إعلان إفلاسها.
وهو ما لم يكن بعيدا عن الهند التى شهدت لمدة تسعة شهور، وكأنها شهور الحمل، قتلى من الملايين من المسلمين والهندوس والسيخ بمن فيهم المهاتما غاندى، أبو الثورة الهندية نفسه.
طبعا هناك دول دخلت فى فخ «التحول الدائم» كما تقول بعض الدراسات. هناك دول نجحت فى تدمير النظام القديم لكنها ظلت دائما وكأنها غير قادرة على أن تصل إلى بر الأمان على الإطلاق. باكستان وكوت ديفوار والعراق ولبنان لم تقدم لنا مثالا فى كيفية بناء نظام ديمقراطى مستقر. وهو ما أتمنى لقومى أن يعلموه.
السفر طويل، والعقبة كؤود، والمخاطر جسام، ولكن نحن نسير على طريق سبقنا فيه آخرون. الأمل قائم، واليأس خيانة، والغد أفضل بإذن الله