تعكف دوائر الاستثمار على دراسة المناخ الاستثمارى لأى دولة قبل اتخاذ قرار الاستثمار فيها، وبقدر ما توفره الدولة من حوافز استثمار يكون الاقبال من المستثمرين على ضخ الأموال فى شرايين اقتصادها، وفى الأعوام القليلة التى سبقت قيام ثورة 25 يناير شهدت معدلات الاستثمار الأجنبى زيادة مطردة مدفوعة بميزة نسبية كبيرة وهى رخص أسعار الطاقة فى السوق المصرية، ما يدعو لأهمية دراسة تأثير هذا القرار على مناخ الاستثمار المصرى وجاذبيته، وما إذا كانت أسعار الطاقة الرخيصة تتمتع بوزن نسبى أكبر من حيث جاذبية البلاد للاستثمار فى مقابل اتساع السوق والموقع الفريد لمصر بين أسواق العالم والاتفاقيات التجارية التى وقعت عليها ورخص العمالة.
حذر مستثمرون من مخاطر مضى الحكومة قدما فى تنفيذ إجراءات من شأنها رفع الدعم عن الطاقة تدريجيا أى “تحرير أسعار الطاقة”، لأنه يعنى توريد الطاقة للمصانع بالأسعار العالمية، ما يقلل من القدرات التنافسية للاقتصاد المصري، ويرفع من تكلفة الاستثمار فى مصر، وبالتالى المزيد من احجام المستثمرين عن الدخول للسوق المصرية.
وأكدوا أن مواجهة العجز المتزايد فى الموازنة العامة لا تكون أبدا بتحرير أسعار الطاقة، لما يمثله ذلك من مخاطر، بل من الضرورى البحث عن آليات جديدة لمواجهة هذه المشكلة بدون التأثير بشكل سلبى على قدرة الاقتصاد على جذب المزيد من الاستثمارات، التى تعنى زيادة الانتاج وتوفير المزيد من فرص العمل للشباب العاطلين.
كانت الحكومة قد قررت توريد الغاز الطبيعى للمصانع كثيفة الطاقة بسعر 6 دولارات للمليون وحدة حرارية بريطانية و4 دولارات للمصانع متوسطة استهلاك الطاقة، وهو القرار الذى من الممكن ان يؤثر على جاذبية الاستثمار فى بعض القطاعات، فيما تدرس لجنة الصناعة والطاقة بمجلس الشورى حاليا تحرير أسعار الطاقة بشكل تدريجى على مدار عام ونصف العام.
قال يوسف الفار، رئيس مجلس ادارة شركة النعيم القابضة للاستثمارات المالية، إن قرار الحكومة بشأن تحرير اسعار الطاقة بالاسعار العالمية، سيكون له تأثير على الجدوى الاستثمارية فى مصر، ولكن بنسب متفاونة على كل قطاع.
وأضاف أن التأثير سيطال القطاعات كثيفة استهلاك الطاقة مثل الاسمنت والحديد والبتروكيماويات والالومنيوم، وهو ما سيؤثر سلبا على جدوى الاستثمار فى مثل هذه القطاعات، وسيعيد دراسات الشركات مرة أخرى فى جدوى انشاء مصانع من هذا النوع فى مصر، ويأتى محدود ومنعدم التأثير على قطاعات مثل الزراعة أو البنية التحتية أو العقارات، نظراً لاعتماد هذه القطاعات على مميزات أخري.
وأوضح الفار أن مصر تتمتع بمميزات نسبية أخرى منها الموقع الجغرافى الفريد بين ثلاث قارات، بالاضافة إلى الاتفاقات التجارية مع دول أفريقيا والاتحاد الاوروبي، التى تمت خلال السنوات العشر الماضية، التى تتيح للسلع المصرية ميزة تنافسية فى الأسواق الخارجية، نتيجة انخفاض الجمارك ورفعها فى بعض الأوقات على عدد من السلع.
اعتبر القوة البشرية التى تمتلكها مصر إحدى أهم الميزات الجاذبة للمستثمرين، نظرا لأن مصر هى أكبر سوق فى المنطقة كلها، بالإضافة إلى رخص الأيدى العاملة، والتوزيع الطبوغرافى للسكان، وتنوع مصادر الطاقة ووسائل النقل النهرى البرى والسكك الحديدية والبحرية والجوية.
من جانبه أكد كريم هلال، رئيس جمعية اتحاد رجال أعمال جنوب شرق آسيا، عدم تأثر الاستثمارات فى مصر بقرارات الحكومة برفع الدعم، وتحرير سعر منتجات الطاقة بالأسعار العالمية.
وكشف أن تحرير الطاقة كان أهم مطالب المستثمرين أنفسهم حتى يتيح قدراً من المرونة للسوق، ويخلق فرصاً للقطاع الخاص للاستثمار فى توريد الطاقة واعتماد النقل النهرى بديلا للنقل البرى ومنافسا له لما له من مميزات أهمها انخفاض التكلفة فى حالة رفع الدعم.
وقال هلال إن مصر تتميز بميزات أخرى كثيرة مثل الموقع والاتفاقات الدولية وقوة العمل الرخيصة والمبدعة والكثافة السكانية وتنوع فرص الاستثمار بها والمزايا الضريبية، وإن كان هناك بعض المستثمرين من الممكن أن يحجموا عن الاستثمار فى القطاعات كثيفة الاستهلاك للطاقة إلا أن تنوع الاستثمارات فى مصر، وتنوع مواردها يجلبان استثماراً أكثر فى قطاعات أخرى كثيرة مثل السياحة والعقارات والبنية التحتية، التى من المنتظر أن تشهد استثمارات مكثفة عليها بنظام الـ P.O.T.
وأوضح عمر مغاوري، مدير الاستثمار بشركة القاهرة القابضة للاستثمارات المالية، أن جاذبية الاستثمار لم تتأثر حتى على القطاعات كثيفة الطاقة نظرا للامتيازات البيئية، التى تمنحها مصر للمصانع العاملة فى قطاعات الاسمنت والبتروكيماويات والاسمدة والحديد، التى تمنع النظم البيئية فى دول الاتحاد الأوروبى انشاء مثل هذه المصانع على اراضيها.
وأشار إلى أن موقع مصر فى قلب العالم يجعلها قريبة من كل الدول ما يعطيها وفراً فى تكلفة عمليات النقل للانتاج إلى كل العالم، وأن الحكومة قامت بطرح 7 رخص اسمنت خلال الفترة الماضية تقدم ليها عدد كبير من الشركات، ولم يتم اعلان الفائزين بالرخص الجديدة بعد، بالاضافة إلى اعتزام شركة “حديد المصريين” بناء أربعة مصانع جديدة خلال الفترة القادمة، وهو ما يؤكد جدوى الاستثمار فى هذه القطاعات.
ولفت مغاورى إلى ضرورة قيام الحكومة بهذه الاجراءات لسد العجز الحالى فى الموازنة، حيث بلغ المقدر فى الخطة لعجز الموازنة 139 مليار جنيه منها 110 مليارات جنيه دعماً للطاقة فقط وبنسبة 79% من حجم الدعم تقريبا، فيما بلغ العجز الحقيقى حتى الآن 200 مليار جنيه، مطالبا الحكومة بتطبيق السعر الجديد بعدالة على كل الشركات وبشكل عادل حتى بالنسبة للشركات، التى تملكت عقوداً من الحكومات السابقة لتوريد الطاقة بأسعار مخفضة حتى تخلق سوقاً تنافسية حقيقية، اما لو لم تقم الحكومة بعمل هذا، فإن القرار سيكون طارداً للاستثمار بشكل فعلي.
فيما قال خالد سبع، العضو المنتدب لشركة أجريكول لصناديق الاستثمار، إن المشكلة تقع بشكل كبير على شركات الاسمدة وخاصة الحكومية، التى تقوم ببيع الاسمدة مدعمة، حيث يدخل الغاز الطبيعى كأحد أهم مكونات الانتاج، ما قد يجعلها تحقق خسائر فادحة إذا لم يتم تحرير ثمن السماد أو محاولة الدعم المباشر للفلاح لعلاج مشكلة الاسمدة.
وأكد محدودية التأثير على شركات الاسمنت، نظرا لكون الطاقة أحد مدخلات الانتاج، وليست المكون الرئيسى للاسمنت، بالاضافة إلى أن أسعار الاسمنت محددة عالمياً ويتم بيعها بالاسعار العالمية، وأن الضرائب فى مصر تظل فى الحدود الجيدة الجاذبة للاستثمار، طالما انها تحت 25% من الربح الصافى بالمقارنة لدول المنطقة، لكونها تتراوح بين 30 و35% فى دول المغرب العربى و15% فى العراق بمخاطرة الاستثمارية.
وأشار عيد الحوت، رئيس مجلس ادراة شركة “كيما”، إلى أن الشركة تقدمت برأيها بخصوص رفع أسعار الغاز إلى شركة “ايجاس”، فيما تنتظر رد الأخيرة، كاشفا أن آخر المكاتبات التى وصلت إلى الشركة تفيد برفع السعر إلى 4 دولارات للمليون وحدة حرارية بريطانية، وهو ما سيؤدى إلى تراجع أرباح الشركة، حيث يمثل الغاز 60% من تكلفة الانتاج تقريباً، بالاضافة إلى أن وزارة الزراعة هى التى تقوم بتحديد سعر بيع الأسمدة للشركة.
فيما وافق مجلس ادارة شركة “ابو قير للاسمدة” على مقترحات لجنة المراجعة بزيادة أسعار بيع الاسمدة لبنك “التنمية والائتمان الزراعى ” عند تجديد التعاقد لمقابلة الزيادة فى اسعار الغاز الطبيعى.
ويرى عمرو القاضى، خبير الاستثمار المباشر، أن الحل يتمثل فيما يخص قطاع الأسمدة أن يتم تحرير سعر الطاقة على الشركات الحكومية وتحرير سعر البيع ايضاً وتوجيه الدعم بشكل مباشر للفلاح نفسه، حيث يبلغ السعر المحلى لليوريا 1500 جنيه للطن، فيما يبلغ السعر العالمى اضعاف هذا الرقم.
وكشف أن رفع الدعم عن الطاقة فى مصر خطوة ايجابية لإزالة حالة التشوة الموجودة بالاقتصاد المصري، لان الدعم يشهوه التكلفة، وبالتالى يشوه سعر البيع، ويهدر الكفاءات والامكانات، موضحا أن دعم الطاقة فى مصر كان ميزة اضافية للاستثمار وليس الميزة الوحيدة، حيث يبقى الاستثمار مجدياً، ولكنه لم يصبح مغرياً.
واعتبر القاضى أن الاصل دفع تكلفة الاشياء، وأن ما كان يحدث هو الشاذ، حيث توجد استثمارات بكل دول العالم على الرغم من عدم وجود دعم للطاقة، وأن مزايا الاستثمار فى مصر متنوعة، وأن تأثير القرار سيأتى متباينا على القطاعات المختلفة، لأن هناك من القطاعات ما تجد فى ضخامة السوق الميزة النسبية الرئيسية، فيما تعتمد قطاعات أخرى على ميزة الموقع الجغرافي، وتعتمد قطاعات على الاتفاقات التجارية المصرية مع الدول العربية وافريقيا والاتحاد الاوروبى والتى تمنحها مزايا تصديرية.
وذكر أن أكثر القطاعات تضررا من قرار تحرير سعر الطاقة سيكون قطاع الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، لأن تكلفة ارتفاع الطاقة ستشهد زيادة ملحوظة وبالتالى فإن جدوى الاستثمار ستقل بشكل ملحوظ، مؤكدا أن الاقتصاد بشكل عام سيستفيد من القرار، لأنه سيعاد توجيه مخصصات دعم الطاقة إلى ما يترتب عليه فائدة كبيرة على الاقتصاد.
كتب – محمود القصاص
