تقول الحكمة التقليدية إن الأزمة المالية التي اندلعت بداية في الولايات المتحدة أثبتت أن النموذج المالي «الأنغلو – ساكسوني» يتسم بخطورة بالغة وتشوبه عيوب عميقة جداً لدرجة لا يصلح معها لأن يكون نموذجاً يحتذى في باقي أنحاء العالم. لأنه لو كان نموذجاً جيداً، فكيف إذن عانينا من حالة شبه انهيار دراماتيكي في النظام المصرفي في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا؟
وتقول فايننشال تايمز: ولكن حري بالقول إن الهيبة والنفوذ الكبيرين اللذين بلغهما النظام المصرفي الأنغلو – ساكسوني، خلال عقد التسعينات من القرن الماضي، تحققا، في جزء منها، لأن باقي النماذج المصرفية الرئيسية «الأخرى» فشلت على نحو مذهل في بلادها التي طالما اعتبرته أعظم ممثل لها.
خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي، موّلت البنوك اليابانية واحدة من أكبر فقاعات الأسهم والعقارات على الإطلاق. ولعل استثماراتها السيئة والمتهورة لا يضاهيها سوى الإنفاق الأخير في الصين (التي تتقاسم بنوكها، بالمناسبة، بعض خصائص البنوك اليابانية).
إذن، هل جميع الأنظمة المالية مآلها الفشل؟ يقول هايمان مينسكي، أحد ألمع الاقتصاديين في القرن العشرين، إنه من غير الممكن تصميم نظام مالي مقاوم للأزمات. فالبنوك تمثل الوسيط بين المدخرين الذين يعيرون الاستقرار أهمية قصوي، والمقترضين الذين يرغبون عادة فى المخاطرة بقروضهم. ويشير التاريخ إلى صحة ما ذهب إليه مينسكي. إذ لم يحافظ أي اقتصاد في طور النمو على نظام مالي مستقر. وفي الواقع، خلق الثروات على المدى الطويل يحدث في الغالب في المجتمعات التي يكون نظامها المالي على استعداد تام لتمويل رجال الأعمال المبادرين المخاطرين، ولكن كلما زاد استعداد النظام المالي لتمويل المشاريع الجديدة التي تتسم بالمخاطر، زاد احتمال عدم الاستقرار المصرفي.
ولعل ذلك السبب في أن النظام الذي أفرز أزمة الرهن العقاري هو، أيضاً، من موّل ثورة الكمبيوتر والإنترنت. وكان المؤرخ البلجيكي ريموند دي روفر شرح الأمر قائلاً إن «الصناعة المصرفية المتهورة والمغامرة في القرن التاسع عشر، وإن كانت تسببت في الكثير من الخسائر للدائنين، فإنها سرّعت من التطور الاقتصادي للولايات المتحدة. في حين أن الصناعة المصرفية المتينة والسليمة أعاقت التطور الاقتصادي في كندا».
وبعبارة أخرى، قد يقلّص الاستقرار المالي المفرط النمو من خلال الحد من نقل الموارد لإنتاج الثروات. ولا يعني ذلك القول إن جميع أشكال الصناعة المصرفية المغامرة جيدة. فمن المؤكد أنه من الصعب رؤية قيمة في الانتهاكات التي حدثت خلال الطفرة العقارية والمشتقات في النظام المالي الأميركي في العقد السابق. كما تبين أن بنوك اليابان في الثمانينات كانت متهورة ومغامرة، أيضاً، بطريقة يصعب تبريرها اقتصادياً على المدى البعيد.
لا مفر
وتضيف فايننشال تايمز: وعلى أي حال، لا ينبغي أن نهدر وقتنا، وفق ما يرى مينسكي في محاولة تصميم نظام مالي لن يعاني المصاعب أبداً. فأي نظام مالي، سواء كان جيد التصميم أم لا، يتجاوب مع السيولة الفائضة وانخفاض أسعار الفائدة من خلال الاستثمارات غير السليمة. كما أن مينسكي ليس لديه أي ثقة في قدرة الجهات التنظيمية على القضاء على المخاطر. فكل ما بوسعها القيام به هو التخفيف من الضرر على الاقتصاد الحقيقي من خلال سياسات تلقائية لمواجهة التقلبات الدورية.
ويضيف قائلاً: إن الاستقرار الذي تفرضه الجهات التنظيمية يزعزع الاستقرار. فتعميم الخسائر عندمت تصبح كبيرة جداً، وهو الطريقة الوحيدة لتحقيق الاستقرار في النظام المصرفي، يشجع على سلوك بالغ الخطورة. وتستجيب البنوك على هذا النوع من الاستقرار من خلال تصعيد نشاط الإقدام على المخاطر إلى أن، في مرحلة ما كما حدث في 2007 – 2008، تكون التشوهات في الميزانيات العمومية كبيرة لدرجة لا يمكن معها منع وقوع أزمة، ولا يمكن مواجهة تأثير الأزمة على الاقتصاد بسهولة.
وبدلاً من ذلك، ينبغي علينا أن نصمم نظاماً مالياً يخصص في الأوقات «العادية» وبذكاء رؤوس الأموال للشركات والأعمال والمشاريع الحكومية التي تخلق الثروات، حتى لو يعني ذلك حدوث أزمات دورية. ويجب أن نسمح بالأزمات المصرفية المحصورة في نطاق بلد معين والتي يمكن التحكم بها والتعاطي معها أن تحدث باستمرار.
وبالتالي، فإن النظام المالي الأميركي في مرحلة ما بعد الأزمة، ليس، وللأسف، كما يمكن لمينسكي أن يقترح ما يجب أن يكون عليه. فالولايات المتحدة لديها عدد قليل من المؤسسات العالمية الكبيرة التي تتحكم بحصص أكبر من السابق من الأصول المالية. وكان مينسكي سيختار، بدلاً من ذلك، نظاماً مجزأ أكثر بكثير. فالبنوك الكبيرة تفضل الاستقرار على النمو السريع، والبنوك الأميركية هي الآن كبيرة للغاية، لدرجة أنها قادرة على فرض ما تفضله على الاقتصاد الأميركي.بحسب القبس
وما قد يكون في الواقع أفضل للولايات المتحدة والعالم هو وجود بنوك أكثر وأصغر، ومنافسة أكثر صرامة، بل وحتى مدمرة ومزيد من الإفلاسات وأنواع أكثر من المؤسسات المالية وجهاز تنظيمي تتمثل وظيفته الرئيسية في فرض الشفافية وإدارة الأزمات الدورية من خلال اتخاذ تدابير لمواجهة التقلبات الدورية. وربما حينها قد نفضل حتى نمط يزيد قليلاً عن «المصرفية المتهورة» التي سادت في القرن التاسع عشر.