إن الزيارة إلي اليونان تخلف لدي الزائر انطباعا بهيجا مشرقا، فهناك بطبيعة الحال تاريخ البلاد الثري، ووفرة من المواقع الأثرية، والسماء الصافية، والبحار البلورية، ولكن هناك أيضا الضغوط الشديدة التي يعمل المجتمع اليوناني الآن تحت وطأتها والشجاعة غير العادية التي يتعامل بها المواطنون مع الكارثة الاقتصادية.
تخلف الزيارة أيضا بعض التساؤلات ولاسيما ماذا كان يتعين علي صانعي السياسات أن يقوموا به بشكل مختلف في التصدي للأزمة المالية في البلاد؟
يري باري ايكنجرين في مقال له بصحيفة بروجيكت سينديكيت أن الأخطاء السياسة الجسيمة في اليونان هي تلك التي ارتكبت في بداية الأزمة، فكان من الواضح بالفعل في النصف الأول من عام 2010، عندما خسرت أثينا القدرة علي الوصول إلي الأسواق المالية، أن الديون العامة لم تعد مستدامة، وكان من الواجب إعادة هيكلة ديون البلاد السيادية علي وجه السرعة.
فلو كانت اليونان سارعت إلي خفض ديونها بمقدار الثلثين، لكان بوسعها أن تتخلص من أعباء الديون الساحقة، وكانت لتتمكن من استخدام جزء من المدخر من الفائدة لإعادة تمويل البنوك، وكان بوسعها ايضا أن تخفض الضرائب بدلا من زيادتها، وكانت لتتمكن من دفع عجلة الاستثمار وتحريك اقتصادها من جديد، إن لم يكن في غضون أشهر فخلال فترة لن تتجاوز عاما.
رفضت المفوضية الأوروبية اعتراف صندوق النقد الدولي الرسمي بخطأه، حيث أصرت علي أن تأخير إعادة هيكلة الديون الذي كان التصرف الصحيح ولا تشعر بالندم من رمي اليونان للذئاب.
وفي ضوء هذه المعارضة، فقد كان يتعين علي الحكومة اليونانية التحرك من جانب واحد، ولكن من الواضح أن هذا التصرف كان ينطوي علي مخاطر، فربما كانت اللجنة الثلاثية «الترويكا» صندوق النقد الدولي، والمفوضية الأوروبية، والبنك المركزي الأوروبي سترفض تقديم حزمة المساعدات، وتجبر اليونان علي ضغط وارداتها بشكل أكثر حدة، وربما كان البنك المركزي الأوروبي سيقطع مساعدات السيولة الطارئة ويجبر الحكومة علي فرض ضوابط رأس المال بل وحتي التفكير في التخلي عن اليورو.
كان يتعين علي قادة اليونان أن يقولوا لزملائهم في الاتحاد الأوروبي إنهم لا يملكون أي خيار غير إعادة هيكلة الديون التي بات من الواضح أنها غير مستدامة، ولكن تجنبا لأي خطأ فإن أداءهم سيظل داخل منطقة اليورو كما إنهم ملتزمون بالإصلاحات.
تقديم مثل هذه الحجة المقنعة كان ليلزم اليونان بالتحرك الجدي بشأن هذه الإصلاحات، وكان بوسع الحكومة أن تبدأ بالاجتماع بأصحاب الأعمال والنقابات للتفاوض علي اتفاقية لتقاسم الأعباء بشكل عادل، بما في ذلك الخفض الشامل للأجور ومعاشات التقاعد، وبالتالي الانتقال السريع إلي خفض القيمة داخليا، وكان من الممكن آنذاك التوصل إلي اتفاق متزامن بشأن إعادة هيكلة الديون الخاصة، ومع قبول الجميع للتضحيات، فربما كان من الممكن التوصل إلي اتفاق بشأن تحرير المهن المغلقة والإصلاح الضريبي الشامل.
ولكن بدلا من العمل بالتعاون مع الشركاء الاجتماعيين، سارعت الحكومة التي استمعت إلي نصيحة الترويكا إلي تفكيك نظام المفاوضات الجماعية في البلاد، لتترك العمال بذلك بلا أي جهة تمثلهم.
ومع فشل الحكومة اليونانية في استكمال الإصلاحات الهيكلية، فقد عجزت عن اكتساب ثقة دائنيها، ومع تشكك الترويكا في التزام الحكومة بالإصلاح، فقد سارعت إلي مطالبة الحكومة بتقديم «رطل من لحمها» في هيئة التقشف كشرط مسبق ثمنا للحصول علي المساعدة، وكانت الزيادات الضريبية وتخفيضات الإنفاق الحكومي من الأسباب التي أدت إلي انزلاق الاقتصاد إلي أعماق أبعد من الركود، وأصبحت إعادة هيكلة الديون أمراً حتمياً بعد سنتين أخريين من العذاب والآلام.
وتسعي اليونان الآن إلي تحقيق أقصي قدر ممكن من الاستفادة من هذا الموقف العصيب، فتحاول بث الحياة في الحملة الداعمة للإصلاح الهيكلي، كما تحاول الضغط علي الترويكا من أجل المزيد من تخفيف أعباء الديون، ولكن علاج الضرر الذي وقع بالفعل لن يكون سهلا، فأخطاء الماضي التي لم ترتكبها اليونان وحدها، بل وأيضا الشركاء علي المستوي الدولي، تجعل المستقبل الصعب علي المدي القريب قدرا لا مفر منه.