اثبت سلوك الشركات متعددة الجنسيات الجشع للحكومات القومية أن «توافق واشنطن» ما هو إلا عباءة للاستعمار الجديد
أصيب نموذج النمو، الذي يقوده الصادرات بالشلل من قبل الدول المتقدمة، نظرا لتحركها السريع نحو الحسابات الجارية المتوازنة
إن ضعف الأسهم في الأسواق الناشئة مؤخرا يعد هيكليا، فقد وصل العالم النامي إلي مفترق طرق في البحث عن نموذج اقتصادي جديد، ليحل محل النهج الحالي، الذي علي الرغم من نجاحه حتي الآن أصبح بالياً.
ظهر النموذج الاقتصادي الحالي في الأسواق الناشئة من رماد أزمة 1997-1998، التي اسدلت الستار علي «توافق واشنطن»، الذي هو عبارة عن حزمة السياسات والإجراءات، التي وضعها صندوق النقد ودعمتها وزارة المالية الأمريكية بهدف إصلاح الأوضاع الاقتصادية والمالية في دول أمريكا اللاتينية في أعقاب أزمة المديونية الخارجية العالمية، التي فجرتها المكسيك في 1982 بإعلانها عدم قدرتها علي الوفاء بالتزاماتها المالية، الذي هيمن علي الفكر الاقتصادي للأسواق الناشئة منذ سقوط جدار برلين.
تبني «توافق واشنطن» بعد ذلك الفكر الاقتصادي الليبرالي الحالي، أسعار ثابتة أو شبه ثابتة لسعر الصرف، الانضباط المالي، التجارة الحرة وجولة تلو الأخري من عمليات الخصخصة، وقد حقق هذا النموذج نجاحات مبكرة في تقليص التضخم، ولكنه فشل في غالبية المجالات الأخري، واثبت سلوك الشركات متعددة الجنسيات الجشع للحكومات القومية أن «توافق واشنطن» ما هو إلا عباءة للاستعمار الجديد.
بعد أزمة 1997-1998، وضعت الدول الناشئة الواحدة تلو الأخري نموذجا جديدا يدور في إطار الاكتفاء الذاتي المالي والاقتصادي، يتكون من أربعة عناصر أساسية، العملات الرخيصة، نمو يقوده التصدير، تراكم احتياطيات الدولار الامريكي، وتطوير مصادر التمويل غير الدولارية خاصة من خلال أسواق للدين بالعملة المحلية.
كان أداء هذا النموذج جيداً إلي حد كبير لمدة عقد كامل، حيث ازدهرت الصادرات، وظهر جيل من صناديق الثروة السيادية جراء تراكم احتياطات الدولار الامريكي، وازدادت أسواق الدين بالعملة المحلية، فضلا عن خلق قدر كبير من الثروة وانتشال 2 مليار مواطن من الفقر، لتظهر الطبقة الوسطي الجديدة، مما أعطي النموذج شرعيته السياسية.
ولكن هذا النهج لم يعد مجديا، فالعملات الرخيصة لم تعد رخيصة، حيث إنها استعادت قوتها الشرائية المفقودة منذ 1997-1998، علاوة علي ذلك، أصيب نموذج النمو، الذي يقوده الصادرات بالشلل من قبل الدول المتقدمة، نظرا لتحركها السريع نحو الحسابات الجارية المتوازنة، لقد كان هذا النموذج جيدا، ولكن الوقت قد حان للأسواق الناشئة للتفكير من جديد في نموذج آخر.
يجب أن يقتبس نموذج الأسواق الناشئة المقبل ما ينفعه من النموذجين السابقين، فينبغي علي الأسواق الناشئة الالتزام بالتعويم الحر لسعر الصرف والحفاظ علي احتياطات الدولار الامريكي والاستمرار في تطوير مصادر التمويل غير الدولارية، إلا أنها يجب أن تترك عالم العملات الرخيصة والنمو، الذي يقوده التصدير.
بالإضافة إلي ذلك، فإن الاسواق الناشئة في حاجة إلي نفض الغبار من فوق أجندة الإصلاح الهيكلي التي هجرتها منذ عقد واتجهت نحو انعاش المنافسة المحلية، ولابد من تمكين المنظمين من القضاء علي السوق الاحتكاري، الذي يعوق المنافسة والنمو.
وينبغي أن تعود السياسة المالية إلي أجندة الأسواق الناشئة، ويشكل إصلاح النظام الضريبي أولوية خاصة المزج بين الدخل وضرائب الاستهلاك، وأصبح إصلاح نظام الضمان الاجتماعي والمعاشات في بعض البلدان النامية أمرا ملحا، خاصة أن التركيبة السكانية أصبحت عائقا وليست دافعا للأمام كما كانت قبل ذلك.
وأخيرا، فشلت القواعد الحاكمة للشركات في جميع انحاء البلدان الناشئة حتي لو كانت تلك الشركات مدرجة في بورصات الدول المتقدمة، وإذا لم تتحسن ممارسات الحوكمة، فسوف تزداد تكلفة رأس المال بالنسبة للجميع.
أحرز العالم الناشيء تقدما علي مدار العقد الماضي، وسيتطلب اتخاذ المزيد من الخطوات في الاتجاه الصحيح تغييرا في النموذج الاقتصادي، وبعض القرارات القاسية، والدول التي ستتمكن من اتخاذ تلك الخطوات سوف تستمر في الازدهار، اما تلك التي لن تتمكن من القيام بها فلن يكون أمامها سوي أن تتأمل العقد الماضي باعتباره العصر الذهبي.
بقلم: دومينيك روسي
المصدر: فاينانشيال تايمز