بداية تحول فيينا لملجأ لأموال المتلاعبين عام 1815
1929 أول قضية مصرية لتهريب الأموال بالخارج لشركة أراضى الدلتا
بريطانيا صدرت للعالم النموذج المثالى للملاذات الضريبية
تعود أصول الأنشطة المالية فى الخارج إلى عام 1815 وتحديداً فى العاصمة النمساوية فيينا عام 1815، عندما تم تأسيس سويسرا الحيادية (دولة تمتنع عن المشاركة فى اى حرب لصالح احد طرفى نزاع) فى مؤتمر فيينا.
وتمت تغذية هذه الانشطة عبر تخفيف قوانين التأسيس المكتوبة فى ولاية ديلاوير فى عام 1889، وتسارعت بفضل انهيار الإمبراطورية البريطانية فى أواخر القرن الـ19، ومنذ ذلك الحين تحولت لأداة وليدة لتسهيل تدفق رؤوس الأموال إلى نقطة خلاف بين الحكومات ووسائل الإعلام، وفقا لجون كريستنسن، المستشار الاقتصادى السابق فى جيرسى التابعة للتاج البريطاني.
وبحسب نيكولاس شاكسون، مؤلف كتاب جزر الكنز فإنه بدون فهم الملاذات الضريبية لا يمكن الفهم بشكل صحيح التاريخ الاقتصادى للعالم الحديث فهذه الملاذات هى الآن قلب الاقتصاد العالمي.
ويقول تقرير لوكالة بلومبرج الاقتصادية نشرته 2013 أنه بدعم من المعاهدات الضريبية وغيرها من التشريعات المصممة من قبل الحكومات لإغراء الشركات الغنية والمتعددة الجنسيات مع انخفاض معدلات الضرائب، تم بناء عالم من التمويل الخارجى خلال الـ200 سنة الماضية من خلال تقديم مجموعة من المركبات المالية التى وفرت الأمن والسرية والسيطرة.
وقسم البروفسور رونان بالان فى ورقة بحثية له عام 2009 الملاذات الضريبية الى ثلاث مجموعات تستند الأولى منها الى المملكة المتحدة التى ورثت ملاذات الامبراطورية البريطانية والثانية الملاذات الأوروبية، والثالثة التى تقوم على الاقتصادات الانتقالية فى أمريكا الجنوبية وأفريقيا.
وظهر مصطلح «ملاذ ضريبي» على نطاق واسع منذ خمسينيات القرن الماضى الناجم عن حزمة سياسة من الأنظمة الضريبية التفضيلية وتشمل مجموعة واسعة من المبادرات والأنظمة المصممة لجذب رأس المال الأجنبي.
عندما قررت المفوضية الأوروبية فى أواخر التسعينيات التحقيق من الأنظمة الضريبية العدائية بين الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى اكتشفت 206 من هذه الأنظمة فى أقاليم تابعة للدول الأعضاء مثل جزر القنال وجبل طارق.
ولا يمكن اعتبار كل دولة تقدم حوافز ضريبية ملاذاً للتهرب طالما ان هدفها تنموى ولا يحمى المتلاعبين ويمكن وضع حد فاصل بين الملاذ الضريبى للمتهربين ومناطق التحفيز الضريبى بان الانتهاك الأساسى يحدث فى صورة انتقال الأموال الى أماكن قانونية منفصلة عن الموقع الحقيقى للمعاملات الاقتصادية وبالتالى إزالة الالتزام الضريبى من المبالغ المنقولة للخارج.
أصول أدوات الملاذات الضريبية
تطورت الادوات جزءاً تلو الاخر وفى مواقع مختلفة، وفى كثير من الأحيان لأسباب لا علاقة لها بالهدف الرئيسى وهو التهرب واخفاء الأموال لكن التطور بهدف خلق ملجأ للاموال المشبوهة ظهر فقط فى المرحلة الثانية من تطورها ابان نهاية الحرب العالمية الأولى وما بعدها، وهناك دلائل على أن بعض البلدان فعلت ذلك وفى مقدمتها سويسرا وليختنشتاين حيث كانت بداية لوضع سياسة شاملة لتصبح ملاذا ضريبيا.
وربما كانت نيو جيرسى واحدة من الحالات الأولى كملاذ ضريبى ففى ثمانينيات القرن الـ18 الولاية الامريكية فى حاجة ماسة إلى الأموال فاقترح محامى شركات من نيويورك السيد/ ديل على حاكم الولاية ليون أبيت دعم خطته لزيادة الإيرادات عن طريق تطبيق امتياز ضريب لجميع الشركات التى تتخذ من الولاية مقرا لها فى وقت تعانى منه الدول الانجلوساكسونيا من تشدد قوانين تسجيل الشركات.
وفى 1898 قرر المجلس التشريعى لولاية ديلاوير صياغة قانون تأسيس لمحاكاة النجاح الذى حققته ولاية نيو جيرسى على يد مجموعة من المحامين من نيويورك.
تشريعات بريطانية تخلق مؤسسة غير محلية
تبنت التشريعات البريطانية قواعد تعتمد اسلوب اعطاء اقامات افتراضية لمن يؤسس شركة دون دفع الضرائب وهو التطور الأهم الذى يعد أساس ظاهرة الملاذ الضريبى بشكلها الكامل التى تبعها فيها كثير من بلدان العالم.
وكان من بين أهم تلك القضية فى 1929 شركة أراضى الدلتا المصرية وشركة انفيستمنت كو فعلى الرغم من أن الشركة سجلت فى لندن لم يكن لديها أى أنشطة فى المملكة المتحدة، وكانت لا تخضع للضرائب البريطانية بالتالي.
واصدرت المحكمة البريطانية قرارا فى صالح الشركة مما كان اساسا لقواعد العمل التى استفادت منها السلطات القضائية فى برمودا وجزر البهاما وظهر النموذج الكامل فى جزر كايمان فى السبعينيات من القرن الماضي.
القانون المصرفى السويسرى لعام 1934
تصدت الجمعية السويسرية لتهديدات الكساد الكبير 1929 خصوصا مع حالات الإفلاس فى ألمانيا والنمسا فى الثلاثينيات من القرن الماضى وتم تعديل قانون البنك لحماية النظام المصرفى السويسرى وكانت اخطر مادة هى رقم 47 من قانون عام 1934 الخاص بسرية الحسابات المصرفية عن طريق وضعها تحت حماية القانون الجنائى حتى الحكومة السويسرية لا يحق لها الاطلاع على هذه الحسابات فيما عرف بالصمت المطلق مما جعل التحقيق أو البحث فى الأسرار التجارية للمصارف وغيرها من المنظمات جريمة جنائية.
واسست السرية السويسرية الركن الثالث فى المنظومة العالمية لحماية الفساد المالى جنبا إلى جنب مع قوانين الولايات الامريكية والإقامات الافتراضية البريطانية للشركات، ليتم استنساخها من قبل ولايات قضائية أخرى.
المراحل المبكرة لتطور الملاذات الضريبية
شهدت الفترة ما بين الحربين العالمية الاولى والثانية ظهور نماذج كاملة لما يعرف بمراكز الملاذات الضريبية منها سويسرا وليختنشتاين تلك الإمارة الصغيرة بين سويسرا والنمسا، التى اعتمدت الفرنك السويسرى كعملة لها فى عام 1924، وفى الوقت نفسه سنت القانون المدنى الخاص بها.
وصعد نجم مثلث ضم مدينة زوريخ فى المانيا وقرية زوج فى ريفها بجانب امارة ليختنشتاين كأول مركز ملاذ ضريبى حقيقى فى فترة العشرينيات، وبجانب لوكسمبورج هناك أدلة أيضاً على أن برمودا، وجزر البهاما وجيرسى وكذلك بنما جرى استخدام كل منها فى نطاق محدود كملاذات ضريبية فى السنوات ما بين الحربين العالميتين من الستينيات إلى التسعينيات ذروة الملاذات الضريبية.
ارتبط نمو الملاذات الضريبية الحديثة عادة مع ارتفاع الضرائب فى فترة الستينيات، لكن الربط مضلل إلى حد ما وذلك لسببين: أولاً أن الملاذات الضريبية قديمة، ثانياً رغم ارتفاع الضرائب فى الدول الصناعية المتقدمة وظهو رما يسمى بالسوق الأوروبية، إلا أن دور البنك المركزى فى انجلترا تسبب فى تطور التعاملات المالية الخارجية حيث وافق على عدم رقابة المعاملات التى أجريت من قبل البنوك فى المملكة المتحدة نيابة عن المقرض والمقترض الذين هى من خارج البلاد وهذا هو المفهوم الضمنى لعدم خضوع البنوك التجارية لإشراف بنك انجلترا المركزى، مما أدى إلى تاسيس اقتصاد الأنشطة المالية عبر حدود دول السوق الأوروبية فى قلب لندن وبقايا الأمبراطورية البريطانية.
السوق الأوروبية والملاذات الضريبية البريطانية
بدأت البنوك البريطانية لتوسيع أنشطة فى جيرسى وجيرنسى، وجزيرة آيل أوف مان فى مطلع الستينيات، وبحلول 1964 انضم إليهم بنوك أمريكية كبرى ثلاث هى سيتى بنك وتشيس مانهاتن، وبنك أوف أمريكا.
فى عام 1966 سنت جزر كايمان مجموعة من القوانين شملت قواعد تنظيم ورقابة البنوك والشركات وقانون تنظيم الصناديق، وقانون أنظمة مراقبة الصرف، وأيضاً قانون الشركات لعام 1960، مما دعم النموذج التقليدى للملاذات الضريبية فظهرت قصة نجاح جزر كايمان المذهلة فوفقاً لإحصاءات بنك التسويات الدولية، فى عام 2008 كانت جزر كايمان المركز المالى الرابع الأكبر فى العالم.
قبل نهاية حقبة الستينيات ظهرت سنغافورة باعتبارها ملاذ ضريبى امتصت اموال المنطقة الفارة من حرب فيتنام التى تصاعدت اثر الحرب الهندوصينية مع فرنسا وبحلول منتصف هذه الحقبة كانت هناك زيادة فى نفقات النقد الأجنبى فى المنطقة، ولكن حدث تشديد الائتمان فى 1967 و1968، مما ساهم فى ارتفاع أسعار الفائدة فى سوق العملات الأوروبية مقابل الدولار، ونتيجة لذلك، أصبحت أرصدة الدولار فى منطقة آسيا والمحيط الهادئ جذابة للعديد من البنوك فرداً سنغافورة من خلال إنشاء حوافز لفروع البنوك الدولية فى الانتقال إلى سنغافورة.
كان هناك فرع لبنك أوف أمريكا وهو أول من إسس إدارة للمعاملات الدولية لغير المقيمين فى ما كان يسمى الوحدة الآسيوية للعملة كما هو الحال فتم انشاء مجموعة منفصلة من الحسابات لتسجيل جميع المعاملات مع غير المقيمين لا تخضع لضوابط الصرف مع الالتزام بتقديم تقرير شهرى مفصل للمعاملات إلى سلطة الرقابة على النقد فى سنغافورة.
الملاذات الضريبية إلى العالمية
جلب النجاح النسبى للملاذات الضريبية الأوروبية ومنطقة البحر الكاريبى لاعبين جدد الى حلبة السباق فتأسس أول ملاذ ضريبى فى المحيط الهادئ فى عام 1966، فى جزيرة نورفولك الخاضعة للحكم الذاتى وتتبع الأراضى الأسترالية، وسعت الحكومة الفيدرالية الاسترالية باستمرار لمنع تطور ملاذا نورفولكو وتبعها جزر اخرى منها فانواتو وساموا وجزر مارشال والتى تبنت تشربعات وصلت بالضريبة الى مستوى الصفر وسرية الحسابات وتطورت حاليا بحيث تسهل التجارة الإلكترونية ولعب القمار على الانترنت.
مركز مهم آخر ظهر عام 1987 وهو مركز الخدمات المالية الايرلندية فى العاصمة دبلن بعد نجاح منطقة شانون لتجهيز الصادرات، عام 1959، بفض نظامها الضريبى المواتى لبعض الأنشطة المالية وانخفاض معدل الضريبة على الشركات الى نحو 12.5% فى عام 2008.
فى أكتوبر عام 1975، بدأت فى البحرين سياسة ترخيص الوحدات المصرفية للتعاملات الخارجية وسرعان ما تبعتها دبى وشهدت فترتى الثمانينات والتسعينيات انتشارا كبيرل للملاذات الضريبية فى مناطق أخرى من العالم مثل المحيط الهندى وأفريقيا وجمهوريات الاتحاد السوفيتى السابقة.
وبحلول أوائل 1990 التسعينيات كان هناك ما بين 60 و100 ملاذ ضريبى حول العالم، وبحسب الإحصاءات الدولية فإن الثلث على الأقل من كل الاستثمارات الدولية المباشر فى الخارج تم توجيهها من خلال هذه الملاذات فيما تشير التقارير الدولية إلى أن أكبر حركة نزوح فى العالم هى نزوح اموال الدول النامية الى مخابئ الثروات.
دور اتفاقات منع الازدواج الضريبى
تجدر الإشارة الى أن اتفاقات منع الازدواج الضريبى كانت سبباً فى دعم تلك الملاذات مثل اتفاقية روسيا وقبرص عام 1998 التى حدت من الضرائب على توزيعات الأرباح من روسيا الى 5% فقط واتفاقية ايطاليا ولوكسمبورج عام 1980 التى قلصت ذات الضريبة لشعب البلدين.
وكشفت تعرض قبرص لازمة مالية هددتها بالإفلاس خلال الأعوام الماضية عن وجود 31 مليار دولار أرصدة روسية فى بنوكها بحسب وكالة موديز للتقييم الائتمانى.
الهجوم على الملاذات الضريبية
فى ختام الورقة البحثية للبروفسور رونان بالان، قال إن إحصائيات مذهلة المرتبطة الملاذات الضريبية ترسم صورة للدور المحورى لها فى انحراف الاقتصاد العالمى، وقد سعت دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا لتوحيد الجهود العالمية لإغلاق بعض الثغرات والضغط على هذا الملاذات لتغيير بعض القواعد والسياسات، إلا دور دول مثل امريكا وفرنسا والمانيا فى محاربة هذه الأوكار لم يكن متناسقاً مع دورها فى تشجيعها فى الحقب الماضية.