
أصبحت أجزم أن الصلة شبه مقطوعة بين شعب مصر اليوم وبين قدماء المصريين. كان القدماء يخططون لكل شيء ولما بعده، يخططون للحياة ويستعدون للموت، بل ويخططون لرحلة ما بعد الموت بدأب وإخلاص. الجدل الدائر، حالياً، حول قرض صندوق النقد الدولى يؤكد ما ذهبت إليه، فمدار الجدل ما زال حول نوايا الجهة المانحة تجاه مصر، أو قدرة الحكومة على إقناع الصندوق بكفاءة الاقتصاد المصرى، أو فى أحسن الأحوال أثر القرض على الدين الخارجى.. لكن المنطق السليم يستفز سؤالاً أهم وهو: ماذا بعد القرض؟ فالحصول على قرض الصندوق ليس غاية فى ذاته بل هو وسيلة لتحقيق عدة أهداف ذكرها الصندوق فى هيئة وصايا، وذكرتها الحكومة فى هيئة برنامج وطنى أقره البرلمان، وتلقّاها الشعب فى هيئة شروط دولية ووصاية أجنبية، وعلى أي حال فمصير القرض كمصير المساعدات والمنح التى تلقتها مصر منذ عام 2011 وحتى تاريخه والبالغة 30 مليار دولار؛ لأن الفكر الحكومى السائد لم يتغير وإن تغيّرت أسماء الوزراء.
المنهج الحكومى فى مصر يقوم على إدارة الدولة بطريقة رد الفعل والتربّص بالحرائق لإطفائها، لا بمنهج التخطيط وأنظمة إدارة المخاطر. قرض الصندوق مثلاً لم تظهر الحاجة إليه إلا بعد أن عانى الاقتصاد المصرى تراجعاً جماعياً فى موارد النقد الأجنبى، وانخفاض قيمة العملة المحلية، وارتفاع حدة التضخّم، وتوحّش الدين العام، مع اشتداد وطأة العجز الهيكلى فى الموازنة العامة وفى ميزان المدفوعات (وخاصة ميزان التجارة)، وزيادة معدلات الفقر لتشمل ما يقرب من ثلث السكان وفقاً لبيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، ووصول مستوى الفقر المدقع إلى ما فوق نصف السكان، وفقاً لخط الفقر العالمى البالغ 1.9 دولار/ يوم.. وكأن كل تلك المؤشرات قد ظهرت فجأة وليست إرثاً متراكماً تحدثنا الحكومات المتعاقبة عن الاشتباك معه دون أدنى جدية فى هذا الاشتباك. حكومات ما بعد يونيو 2013 ظلت تنتج التشريعات فى غيبة البرلمان، وبعد أن ظهر البرلمان (بحالته التى ترونها) تفرّغت الحكومة لعقد اتفاقات القروض ورصد الأصول القابلة للبيع! لكن الكفاءة فى الإدارة والاضطلاع بمهام السلطة التنفيذية مازالا محل شك كبير.
إذا كان الاستخدام المباشر لقرض الصندوق هو دعم احتياطى النقد الأجنبى لضمان سداد الالتزامات الدولية، وتمكين البنك المركزى من تحرير سعر الصرف بصورة جزئية عبر اتباع سياسة تعويم مدار بغرض تضييق الفجوة بين سعرى صرف الدولار فى السوق الرسمية والسوق السوداء، فلا يمكن أن نتصوّر استقرار سعر صرف الدولار بعد طرح أو اثنين للمركزى تدعمهما بضعة مليارات من الدولارات لا تكفى بالكاد أسبوعين من طلبات الاستيراد وحدها (للقسط البالغ 4 مليارات دولار فى العام).. ولا يمكن بناء برنامج متكامل للإصلاح الضريبى وترشيد الدعم والتحوّل إلى الدعم النقدى وتخفيض الدين العام والإصلاح المؤسسى والتشريعى.. على تلك المليارات التى ترتّب فى ذاتها التزاماً بالسداد، بينما لم نشهد استغلالاً أكفأ لمنح، لا ترد، بلغت نحو ضعفى إجمالى القرض كما سبقت الإشارة.
أنت لا تتخيّر لون الطوق الذى ينتشلك عند الغرق، ربما كان القرض طوق نجاة لحكومة لا تجيد السباحة، وشهادة ضمان دولية لبرنامج محلى التعبئة مستورد بالكامل من الصندوق، وربما أمكن التعويل على تلك الشهادة للحصول على مزيد من القروض ولطرح سندات دولية ولجذب أو الإبقاء على بعض الاستثمارات، لكن انتظار القرض لضخه فى الأسواق دون رسم خريطة كاملة لمواطن الهدر فى الموارد ووضع آليات نافذة لوقف ذلك الهدر هو بمثابة تعبئة الوقود فى خزّان مثقوب، والحلول الاقتصادية كثيرة خارج الصندوق وداخله وربما تتسع لها مقالات قادمة بإذن الله.
د. مدحت نافع
نائب رئيس لجنة الاستدامة بالاتحاد العالمى للبورصات