توحيد الجبهة الداخلية خلف بوتين وتجاهل الشعب للفشل الاقتصادى
88% تأييد الشعب للرئيس إبان العدوان على جورجيا 2008
موسم الانتخابات يحول المعارضة إلى طابور خامس وخونة
وضع النظام السياسى الروسى الحديث مفهوما جديدا يدور حول الحرب، التى تتمتع بتأييد شعبى كبير، وكان الكرملين قادرا على تعزيز الشعور بالبطولة الاسطورية لدى الشعب تجاه بلاده عندما يتعلق الأمر بالحرب.
ويفسر ذلك تورط الدب الروسى بقياد فلاديمير بوتين فى حروب متتالية فى العقد الاخير بداية من جورجيا 2008 الى أوكرانيا، مرورا بسوريا ثم دعم محور ايران فى اليمن وغيرها.
وتساعد الحرب سواء على الدول المعادية أو على الارهاب النظام فى موسكو فى الحصول على هالة من القدسية كما يرى اندريه كلسينكوف المحلل الروسى فى معهد كارنيجى للسلام فرع موسكو فبعد كل شيء، يجب أن تكون القلعة المحاصرة محمية من الداخل وهو ما يساعد على إقناع الشعب بأن العدوان الروسى على دول فى الخارج او على جماعات بعينها كما حدث فى دول الاتحاد السوفيتى السابقة مثل الشيشان هو فى الواقع جزء لا يتجزأ من حرب دفاعية كما انها مجرد جزء من سلسلة من العمليات العسكرية منخفضة التكلفة بالنسبة لتكلفة متوقعة لنتائج عدم خوض هذه الحروب من مشكلات.
وقد برر الرئيس الروسى فلاديمير بوتين المشاركة الواسعة للقوات المسلحة الروسية فى العمليات العسكرية فى سوريا دفاعا عن نظام بشار الأسد ضد الجماعات المسلحة المعارضة بانها تدريب ميدانى اقل تكلفة بكثر من التدريبات الوهمية فى بلاده.
وقد وجد الرجل ضالته فى المعارك الصغرى فحربه ضد جورجيا فى 2008 والتى استمرت عدة اسابيع رفعت شعبيته فى استطلاعات الرأى إلى 88% لكن هذ التأييد هبط إلى 63% فى 2011 مما يعنى انه فى حاجة لتكرار مغامراته.
وفى 2015 قام مركز ليفادا للابحاث بعمل استطلاع رأى شمل 1600 شخص قال 34% ان العقوبات الغربية على روسيا سيكون لها اثر فورى خطير، بينما راى 47% ان تداعيات العقوبات ستستمر فى المستقبل لكن 69% منهم اى الاغلبية اكدوا تأييدهم لقرارات الكرملين برغم كل شىء.
فى هذه الحالة، فإن شاغلى القلعة (الشعب) فى الواقع هم اشبه بالرهائن لكنهم يعانون من شكل من أشكال متلازمة ستوكهولم نحو حاكمهم (خاطفهم) وهو مرض نفسى يعبر عن تعاطف الضحايا مع الجانى وهو ما يظهر فى تقديمهم الدعم القوى لتحركات وسياسات الحاكم.
والجدير بالذكر أن مفهوم الكرملين الحديث للحرب يستقى رؤيته من تبريرات الحقبة السوفيتية التى تقول إن التحركات العسكرية لموسكو تجرى فقط لمنع حرب أكبر. ويقول احد الشعراء الروس ابان الحرب العالمية الثانية: أن الحرب ليست لاجل بلادنا فقط وسقوط جنودنا كله هو لاجل ان ينام باقى العالم ليلته فى سلام!!
هذه إذن المفارقات التى تسيطر على عقل السلطة فى روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فبالنسبة للروس، حل صراع الحرب محل صراع الثلاجة والتلفزيون ففى الوقت الراهن يصف ما يسمى بصراع الثلاجة التى ترمز الى الرفاهية والتلفزيون الذى يرمز الى دعاية النظام الموجهة عبر الشاشات المواجهة بين ضعف الأداء الاقتصادى وجهود الدعاية الحكومية المطالبة للشعب بالصبر لان الدولة فى حالة حرب ولذلك عندما ينجح الاعلام الموالى للنظام فى دوره يقول المحللون إن التلفزيون أقوى من الثلاجة.
ويمكن القول بالفعل ان التلفزيون انتصر على الثلاجة لان الحرب حاليا والمخاوف المتعلقة بها فاقت على الأقل فى الوقت الراهن اية مخاوف أخرى بين السكان المحليين فى روسيا. ومع ذلك يبقى من المهم بالنسبة لبوتين ألا يتحول الاهتمام فى البلاد إلى القضايا الاكثر إلحاحا خصوصا الاجتماعية والاقتصادية التى هى اصلا نتيجة الحرب وما يلزمها من نفقات هائلة.
ويعتبر التلفزيون الروسى اداة عسكرية بالنسبة للكرملين حيث يخدم اهداف الحروب المحتملة فقد دخل الروس اجواء الحرب فى اوكرانيا فورا بمجرد الجلوس امام الشاشة، بل ان كافة المعلومات التى يعرفونها عن سير المعارك وادارة العملية السياسية فقط هى ما يعرضه التلفزيون ببساطة.
ويفسر ذلك تأييد 64% ممن شملهم استطلاع لمركز ليفادا فى 2014 للمشاركة فى الانضمام الطوعى لارض المعركة فى شرق اوكرانيا ويدعم 40% المشاركة المباشرة للجيش الروسى فى المعارك هناك.
ورغم أن التاريخ كتب شهادة وفاة الامبراطورية السوفيتية تحت وطأة الانفاق ببذخ لكن من الواضح ان ذلك لم يردع أولئك الذين يعتبرون أنفسهم أحفاد الإمبراطورية البائدة من الاستمرار فى نهجهم.
ووفقا لبحوث الراى الحديثة فإن هناك انفصالا بين قضايا الاقتصاد والقضايا العسكرية فى أذهان عامة الروس. فالقضايا العسكرية تساعد على تقوية معدل رضائهم عن الرئيس بوتين مما يقلل كذلك الحاجة لجهد أكبر من الكرملين لتحويل انتباههم عن القضايا الاقتصادية.
وباتت حالة الحرب الدائمة وسيلة الكرملين الأساسية كبوتقة للنخبة الحاكمة للحفاظ على أنفسهم فى السلطة، حيث يركز خطاب هذه النخبة على مفاهيم عدالة الحرب ودفاعيتها والانتصار، والوقائية.
ورغم ان الكرملين يؤمن بضرورة تعزيز شعبية النظام من خلال الحروب لكنها حروب مصغرة كما هو الحال فى مسيرته المظفرة فى شبه جزيرة القرم، ودونباس، وسوريا، وتركيا ايضا، لكن فى نفس الوقت، لا يرغب الروس فيما يسمونه حربا «حقيقية» اى اشتباك بين الدول التى تمتلك أسلحة نووية.
ويستمر النظام الحاكم فى مزيد من العسكرة والتسلح بما فى ذلك استخدام القوة والإنفاق العسكرى الضخم بدعم من غالبية السكان من أجل الحفاظ على قيمة الاستقرار، وكذلك الاحتفاظ باحساس الروس حديثا بكونهم قوة عظمى.
وحاليا بدأت الصورة تنتقل على الأقل مؤقتا لمعركة اخرى حيث الانتخابات البرلمانية 18 الشهر الجارى ليتحول الجهد كله الى مكافحة أعداء الداخل والطابور الخامس رغم عدم تكافؤ الفرص لان هؤلاء الأعداء أسهل بكثير فى إخضاعهم ممن تواجههم روسيا على التضاريس الصعبة من دونباس شرق اوكرانيا الى سوريا.
وفى النهاية فإن الحديث عن الحرب والإرهاب بات جزءا من الحقائق فى الحياة الروتينية اليومية فى روسيا بشكل متزايد. ومنذ عام 2014، أصبح هذا الواقع أداة أساسية لتحفيز الدعم الشعبى للرئيس الروسى فلاديمير بوتين.
ومن الصعب المبالغة فى تأثير تلك الحروب على الوعى الجماعى للجمهور الروسى لذلك تستغل السلطة ذكرى انتصارات قديمة للجيش مثل الحرب العالمية الثانية، أو الحرب الوطنية العظمى، حيث توفر أساسا قويا للوحدة الوطنية وتساعد على وضع الخلافات الأيديولوجية جانبا. وعملت الحكومات السوفيتية والروسية المتعاقبة على إضفاء الشرعية على أنفسها من خلال تفسيرات أسطورية للحرب وأنهم ماضون على الدرب. ويجرى إعادة تدويرالمواضيع التى تم تطويرها خلال الحقبة السوفيتية فى سياق جديد تماما.
ومما سبق يتضح ان تسويق السطلة الحاكمة التهديدات الداخلية والخارجية، بما فى ذلك التهديد بالحرب إلى الشعب الروسى هو الاداة الرئيسية ضمن استراتيجية سياسية لنظام بوتين.