أصبح ارتفاع الأسعار ونقص السلع من الأمور التي تفرض نفسها على أي نقاش على جميع المستويات الاجتماعية ، وقد وصلت ضغوط التضخم الهائلة إلى 15-16% حسب الأرقام الرسمية وإلى ثلاثة اضعاف ذلك وفقا لقياسات غير رسمية، وما هذا إلا مؤشر واحد من المؤشرات التي تعكس الوضع الاقتصادي الصعب الذي نواجهه في الوقت الحالي.
هذه الضغوط تصاحبها أجور لم تتغير، وشركات أعمال تتخلص من العاملين فيها، وصعوبات جمة تقف في طريق الباحثين عن عمل. أضف إلى كل ذلك الإجراءات القاسية المرتقبة مثل تعويم سعر الصرف ، وزيادة الضرائب ، وارتفاع أسعار الطاقة، و أسعار فائدة عالية للغاية.
يجب على المرء، في واقع الأمر، أن يستوعب مثل هذا الموقف ويتكيف معه، ويجعله أسلوباً جديداً يتبعه لكي يتمكن من مواجهة “الكابوس الاقتصادي” القادم بالاستعداد له مالياً وسيكولوجياً.
الدخل المتاح لرب الأسرة حالياً سيستمر في الانخفاض على مدى الفترة المقبلة، وبالتالي لا يمكن له أن يستمر في معدلات استهلاكه المعتادة على نفس النحو، بل لا بد أن تعيد كل أسرة ترتيب أولويات إنفاقها، وأن تخفض بمعدلات جودة المواد التي اعتادت استهلاكها، وأن تكتفي بالمقومات الأساسية وتتخلى عن الإنفاق على مواد ترفية ليست ضرورية. وحري برب الأسرة أيضا أن يبحث عن مصدر ثانٍ للدخل إضافة إلى مصدر دخله الحالي. هكذا يجب أن تكون الخطة التي يتبعها لكي يظل داخل طبقته الاجتماعية والبقاء في نفس مستواه المالي.
أما بالنسبة للشركات فلا بد أنها تواجه بالفعل سيناريوهات متعددة غير سارة تتراوح بين هوامش الربح التي تتضاءل بشدة لدرجة قد تصل إلى حد تحقيق خسارة أو الإغلاق أو إعلان الإفلاس. وقد تطبق الشركة بعض التدابير مثل التواصل الواضح مع العاملين فيها والاجتماع معهم بصفة متكررة وتوخي الحذر في تقديراتها وتطبيق سياسة عدم توزيع الأرباح لكي تخفف من الآثار العنيفة في هذه الأوقات العصيبة.
يبدو أن هذه الفترة خطيرة ومدمرة للجميع، وهي حقاً كذلك. ومع ذلك يتبقى سؤال هام : لماذا كُتبت علينا كل هذه المعاناة؟
الإجابة بسيطة. إن بلادنا تتعرض لمشاكل هيكلية قاسية منها النقص في العملة الأجنبية، وضخامة الدين العام، وارتفاع تكلفة أسعار الفائدة، وغير ذلك مما يتردد ذكره كثيرا في الأخبار. عدم وجود رؤية اقتصادية أصاب البلاد في مقتل خلال العقود العديدة الماضية وأدى إلى تعرضنا لمثل هذه المشاكل الهيكلية، وهي ذات المشاكل التي أحدثت الخلل المالي الذي تعاني منه غالبية أبناء الشعب في هذه الأيام.
أي محاولة لإعادة الهيكلة تؤدي حتماً إلى هذا الاختلال المالي على المستوى الشخصي، والأمل معقود على الوصول خلال عدد قليل من السنوات إلى اقتصاد أفضل وأكثر استقراراً.
إلا أن السياسات المطبقة في الوقت الحالي تجبرنا على الاعتقاد أن هذا الأمل بعيد المنال.
المعدلات الضريبية الأعلى وأسعار الطاقة الأكثر ارتفاعا وأسعار الصرف الأكثر مرونة تعتبر من التدابير القاسية لكنها ليست ابداعية فهى تتطلب وجود الإرادة السياسية والقدرة على احتواء الغضب وأعمال الشغب المحتملة. ولن يُكتب النجاح لمثل هذه التدابير ما لم تتبعها موجة ثانية من الإصلاحات واستراتيجية إبداعية مفصلة خصيصا تفتح الباب أمام إمكانات البلاد وتساعد على جذب المستثمرين من المجتمع المحلي و الدولى.
الوضع يحتاج إلى استراتيجية اقتصادية موحدة تقودها الحكومة بالاشتراك مع المجتمع المدني والقطاع الخاص وتركز على نشر الاستفادة من المزايا التي تحققها بدلاً من تركيزها في نطاق محدود، وإلى خطة طويلة الأجل تتضمن أيضاً معالم قصيرة ومتوسطة الأمد. يجب أن تبدأ هذه الاستراتيجية بفحص دقيق للإطار القانوني وتخفيض حجم بيروقراطية الدولة بصفة عامة. كذلك يجب أن تشمل الاستراتيجية حوافز تقدمها الدولة على أرض الواقع وقطاعاً مصرفياً مستعداً لفهم أسلوب عمل التمويل متناهي الصغر من أجل ضم القطاع غير الرسمي.
ومن العجيب أن ما يحدث الآن هو عكس ذلك. وبينما تعمل حكومتنا على استكمال إجراءات الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي تواصل المؤسسة العسكرية نفاذها إلى قطاعات رئيسية مثل الاسمنت والحديد والصلب والمواد الغذائية والأجهزة المنزلية، ويواصل القطاع الخاص مطالبته بتنفيذ إصلاحات إلا أن نداءه لا يجد أذناً صاغية. فهذا المشهد الفوضوي في التخطيط لن يوصلنا إلى أي إنجاز.
ما زال يتعين على مصر أن تصدر قانوناً موحداً للاستثمار. لقد بلغ الفساد ذروته في الوزارات المختلفة حتى أصبح حاجزاً كبيراً يحول دون جذب الاستثمار، وأُنشأت صناديق مثل صندوق تحيا مصر لجمع تبرعات المانحين من أجل “تدعيم” الاقتصاد المصري لكنها أصبحت مثاراً للجدل لأنها تخفق في الإفصاح عن مقدار نفقاتها.وفضلاً عن ذلك، ما يزال المجهود المبذول على دمج القطاع غير الرسمي ضعيف للغاية، ولم تقدم الدولة أية حوافز لتحقيق هذا الغرض. أما قطاعنا المصرفي فإنه يفضل التمسك بأساليب الإقراض التقليدية، ويظل عاجزاً عن التعامل مع المؤسسات متناهية الصغر التي تتطلب مقترباً أكثر شمولية وأكثر انتقائية.
وما يزيد الطين بلة هو ما تشهده البيئة الاقتصادية العالمية السائدة من ركود وتقلبات شديدة، ولعل أكبر مثال على ذلك هبوط أسعار النفط وتداعياته على الأسواق الخليجية.
في ظل كل هذه الظروف يكون تحقيق النجاح صعب المنال، لكن على حد رأي هنري فورد: “الفشل يعني ببساطة فرصة جديدة للبداية بذكاء أكبر هذه المرة”. لقد أصابنا الفشل مرات كثيرة لكننا لم نفكر على الإطلاق في البدء من جديد بطريقة أكثر ذكاءً، ولهذا السبب نتعرض لإخفاقات كثيرة في فترات زمنية قصيرة.
نحن نحتاج إلى تقييم شامل وسريع لوضعنا الراهن عبر حوارٍ أكثر شمولية يشمل جميع الأطراف المعنية، كما نحتاج إلى إعادة تقييم الجدوى الاقتصادية لبعض المشروعات العملاقة وخاصة توقيتات تنفيذها.
يتعين على الدولة تبني استراتيجية موحدة والتركيز على التعليم والصحة وإنشاء نظام إداري موازٍ للنظام الإداري الحالي وجعله أكثر كفاءة. وكذلك يتعين على الدولة توجيه البنوك للغة التعامل الصحيحة مع القطاع غير الرسمي وكيفية تسهيل عملية إنشاء المؤسسات متناهية الصغر. ويجب تأييد كل ذلك بمساندة سياسية ومعايير صارمة لانتقاء الوزراء وصناع القرار على أساس الجدارة.
الإخفاق في تنفيذ الخطة سالفة الذكر سيؤدي حتما إلى كارثة اقتصادية ضخمة لا يود أحد أن يراها. قال الرئيس في كلمته الأخيرة: “نحن لن نترك هذه الدولة”! ونحن أيضا لن نتركها بل سنواصل دفعها للسير في الاتجاه الصحيح خاصة فى الاوقات التاريخية الحالية.
فيبقى السؤال: هل ستخفق مصر؟
