الاعتماد على التبرعات والمبادرات الشعبية للخروج من أزمات اقتصادية عنيفة وهيكلية أصبح سمة غالبة على عمل مؤسسات الدولة! أفهم أن تهتم الجمعيات الخيرية والمؤسسات المعنية بالرعاية الاجتماعية بمثل تلك التحويلات، وأفهم أيضاً أن تنطلق دعوة هنا أو هناك بمبادرة «شخصية» من رئيس الجمهورية ارتكازاً على شعبيته فى الشارع من أجل تحقيق مزيد من التكافل بين فئات المجتمع دون أن تستهلك تلك المبادرات جهداً ووقتاً هذا العدد الضخم من المسئولين بمختلف أركان النظام.
أصبحت الصناديق الخيرية كثيرة جداً وزاحم فيها الاقتصاد الوطنى آحاد الفقراء الذين يعيشون على تبرعات ترد إلى مؤسسات خيرية للأسف أن كثيراً منها توجه نصيباً كبيراً من تلك التبرعات لتمويل حملات إعلانية تكلّف مئات الملايين، ونصيباً كبيراً يذهب على بند «العاملين عليها» من جامعى التبرعات وموظفى المؤسسات، وحصيلة كبيرة تذهب تحت بنود تدريب هؤلاء العاملين.. وكل ذلك فى غياب آلية شفافة للإفصاح عن تلك الإيرادات والمصروفات للجمهور الذى هو بمثابة المالك الحقيقى لأموال المؤسسة.
هذه السطور جزء من مقال نشر لى ببوابة الوفد فى أبريل 2011 (لاحظ التاريخ) بعنوان «الفول والطابور وصناديق النذور»
«وزير مالية مصر أصبح يحمل صناديق النذور، هذا لوجه الله وهذا لدعم الاقتصاد وهذا لدعم البورصة وهذا لتلقى مساعدات من البنك الدولى.. صحيح أن حالة الدروشة التى يمارسها بعض وزراء الحكومة الحالية لدغدغة مشاعر الناس تلائم هذه الصورة لكنها أبداً لا ترقى لرسم صورة مصر التى ثُرنا من أجلها وذرفنا الدم والدموع لرفعتها وشموخها».
نموذج وزارة المالية هو مثال واحد فقط لإدارة البلاد بذات الأساليب العقيمة التى ابتليت بها مصر خلال العقود الثلاثة الماضية، يضاف إليه سمة غالبة على من قَلّت حيلته وقسرت إمكاناته دون الجوانب الفنية، فيعمد إلى مغازلة الجماهير ولو بقرارات خاطئة ومخرّبة، والتفنن فى الظهور الإعلامى لتعويض التفوّق المهنى والفنى لوزراء حكومات الفساد السابقة.
كان وزير المالية المعنىّ بتلك السطور هو أول وزراء المالية بعد ثورة يناير واستمر فى حكومة عصام شرف، ولم يفطن الكثيرون أنه الأب الأول لفكرة صناديق التبرعات التى شبهتها فى مقالى بصناديق النذور، وكان رئيس الوزراء نفسه هو المعنى بمدلول كلمة «الفول» فى عنوان المقال إذ كانت الإشارات الرمزية تترى، لتؤكد أن الحكومة من الشعب وللشعب حيث كان سيادته يجلس مع البسطاء ليأكل فى مطاعم الفول! بينما كان وزيرا المالية والتعاون الدولى يقفان فى «طابور» الجوازات لدى عودتهما من السفر، فكان هذا مقصود الإشارة إلى «الطابور» فى عنوان المقال المنشور فى أبريل 2011!.
ماذا قطعنا إذاً منذ ذلك الحين؟ مازال شاغلنا الأكبر إشارات رمزية وصناديق ومبادرات لجمع التبرعات، نحن فى حاجة إلى رؤية اقتصادية وإلى استراتيجيات وخطط مختلفة الآجال لتلائم طبيعة التحديات الاقتصادية التى تواجهنا.
كثير من المبادرات الخيرية ظاهرها الرحمة وباطنها من قبله خيبة الرجاء، ما ظنك بمبادرة لجمع مليارات لا تأتى ببضعة ملايين؟ وما ظنك بالرسالة التى تحملها مبادرة تجمع البطاطين لفقراء مصر من أثرياء الخليج؟! وما ظنك بمبادرة تدعو الشعب لخفض الأسعار دون تفعيل حقيقى لأجهزة الرقابة على الأسواق وفى مقدمتها جهاز حماية المستهلك وجهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية، وحتى ذلك التخفيض هو عرضة للاحتيال من بعض المنتمين إلى المبادرة للحصول على دعاية مجانية وعمل تخفيض وهمى لا رقابة عليه؟!. ثم سرعان ما يتحول شاغلنا الشعبى والرسمى أيضاً للنقاش والجدل حول تلك المبادرات الشعبوية التى ترسّخ فكرة الدولة الغائبة أو السائلة (من السيولة ومن السؤال أيضاً) ولا يبقى إلا أن تعود اللجان الشعبية لتحل محل الداخلية فى الشوارع ثم ننظر ربما اقترح أحدهم مبادرة لتكوين جيش شعبى لا قدر الله! الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الطيبة والطريق إلى الفوضى المجتمعية واللادولة مفروش بالمبادرات الطيبة.
فى بداية القرن ذاع صيت أحد الدعاة الشباب وأصبح ظاهرة فريدة، كنت أقول لأصدقائى هذه ظاهرة تحمل ضرراً أكبر من نفع وترسّخ للجهل بأمور الدين وتفتح الباب للفتيا بغير علم..وكانوا يردون بأنه رجل صالح ولا يقول إلا خيراً، ومرّت السنون وصدق حدثى.
خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر