مداهمة مخازن محتكرى السكر، والقبض على فلان وعلان وترتان وكستبان. تلك عناوين أنا واثق بأنكم مررتم عليها فى وسائل الإعلام والتواصل، ومن المؤكد أن الألسنة لاكت سيرة معدومى الضمير والجشعين وعديمى الدين الذين يستغلون الناس حتى فى قوت يومهم.. إلى آخر هذا الكلام الذى يشبه كثيراً كلاماً قرأته منذ أن كنت فى الثانية عشرة من عمرى، وقت أن علمتنى أمى ضرورة قراءة الصحف.
الجديد الوحيد فيما سبق هو قراءة لفظ الاحتكار أخيراً، بعد كل هذه السنوات خارج إطار أحمد عز.
أخيراً اعترفنا أن هناك احتكارات ومحتكرين. وسواء كنا لا نعلم أو نعلم ونغض الطرف فأحب أن أوضح للجميع، أن الاحتكار يمس كل سلعة يمكن أن تخطر على بالك فى هذا السوق. جميع أنواع البضائع لها أب أو مجموعة من الآباء الذين يفرضون هيمنتهم على استيرادها ويتحكمون فى أسعارها بل ويدهسون من يفكر فى استيرادها.
أنا أكتب فى جريدة البورصة، وأعلم تماماً أن بين القراء من يستطيع أن يقنع شركاء أو عملاء باستثمار ملايين فى عمليات مالية مربحة، ولكن أتحدى منكم من يستطيع أن يقنع عاقلاً باستيراد زيت أو حبوب أو لحوم أو أى سلعة أخرى محتكرة. أتحداه لو تمكن من إدخال رأس ماشية أو طن توابل واحد أو شحنة خشب واحدة. وإذا جاءك عزيزى القارئ من يعرض عليك الاستثمار فى هذه الفكرة فاعلم أنه إما نصاب وإما غير فاهم لمعطيات السوق المصري.
الموضوع ببساطة ضارب بجذوره فى زمن الانفتاح الذى أهل البعض لممارسة الاستيراد، ومكنهم من السيطرة المادية الكاملة على مجموعة من الموظفين الذين يستطيعون أن يمنعوا أى مستورد آخر غيره من إدخال بضاعته بجميع الحجج المستندة إلى قوانين وفحوصات ولجان وخلافه، بحيث إنك لو كنت أحد الحمقى الذى فكر فى هذا الموضوع فستجد نفسك وقد خسرت رأسمالك وتكبدت خسائر وغرامات أيضاً.
هذا الفساد هو تحديداً سبب وجود مصر فى فجوة كونية من الأسعار العالمية، إذ يمكن لأسعار السلع أن ترتفع وتنخفض حول العالم لأسباب كثيرة، ولكن عندنا تسير فى اتجاه واحد بسبب الاحتكارات، هذا التشوه الاقتصادى الذى نتعلمه فى كليات الاقتصاد، ونخرج بعدها للدنيا ولا نستطيع أن نأتى على ذكره.
لاحظ عزيزى القارئ، أن كل فترة تفرد صحيفة ما صفحة أو أكثر عن الغلاء وترصد صرخات المواطنين من جهة وتملص التجار من تهمة رفع الأسعار من جهة أخرى، ومعها مسئول حزبى (يسارى غالباً) أو خبير اقتصادى يتحدث (من خلال الفجوة الزمنية هذه المرة) قائلاً: على الحكومة أن تقوم بدورها فى الرقابة على الأسواق والحد من انفلات الأسعار!!
أيوه؟ اللى هو إيه حضرتك؟؟ ألم تعِ أننا تجاوزنا مرحلة التسعيرة الجبرية؟ ألم تر أنها فشلت إلا فى خلق السوق الموازي؟ هل هناك ما يمنع أى تاجر من وضع أى سعر ما دام وجد له زبوناً؟ ما لكم كيف تفكرون؟
حتى الآن لم تأتِ حكومة واحدة جادة فى مواجهة الاحتكارات وأعمم هذا الاتهام على جميع الحكومات السابقة، وعلى الحكومة الحالية أيضاً، الا هذا الاستثناء الوحيد المتمثل فى سيارات بيع اللحوم فى المناطق الفقيرة التى كشفت فجاجة فرق الأسعار. لقد أظهرت هذه الفكرة كيف يمكن أن يتم خفض الأسعار، وضرب الاحتكارات ولو استمرت وتوسعت لأجبرت كل السوق على خفض أسعاره. سر نجاح هذه الفكرة هو عدم قدرة المحتكرين على دهس هذا المستورد وإفلاسه لأنه أقوى من أن يدهس. هذا الموزع الذى يبيع للفقراء على قدر دخولهم، ويفسد السوق على المحتكرين (أو بمعنى آخر يعدل السوق) يستعصى على الموظفين الفاسدين. فهو بمنتهى البساطة…. الجيش.
كيف يمكن تعميم التجربة؟ هذا موضوع المقال القادم إن شاء الله.