بقلم: تايلر كوون
رغم الحجج الاقتصادية القوية لتحرير التجارة، لا يزال الكثيرون يتشككون فى الصفقات المقترحة، التى تشكل أطرافها الولايات المتحدة وآسيا وأوروبا، وتتركز الانتقادات حول العديد من أوجه التعاون، خاصة الأحكام القانونية التى بموجبها تُنشأ محاكم للفصل فى النزاعات بين الحكومات والشركات.
ويقول أصحاب الانتقادات، إن لجان تسوية المنازعات بين المستثمر والدولة لها الكثير من النفوذ لإعلاء مصالح الشركات فوق الإرادة الديمقراطية تحت ذريعة تطبيق قواعد التجارة، وتسمح للشركات بمقاضاة الحكومات بطريقة ظالمة.
ومع ذلك، فإن نظرة متفحصة تؤكد، أن السمات الأساسية لنظام تسوية المنازعات الحالى التى تظهر فى اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادى الذى يضم 12 دولة واتفاق التجارة والاستثمار عبر المحيط الأطلنطى بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى لا يمكن الاعتراض عليها إلى حد كبير فهى جزء من الوضع الراهن.
أحد هذه الانتقادات هو أن المحاكم قد تجبر الحكومات على دفع تعويضات للشركات الأجنبية التى تتكبد تكاليف نتيجة إجراءات السلامة أو الأنظمة البيئية، ولكن منذ فترة طويلة هناك ممارسات اعتيادية للمعاهدات التجارية لحماية الشركات الأجنبية على سبيل المثال ضد قرارات تأميم الاستثمارات الأجنبية.
ودائماً لا يثق المستثمرون بمحاكم الدول، وبالفعل شهدت الفترة 1990-2013، تأميم ما لا يقل عن 150 شركة مملوكة للأجانب، غالباً فى دول الاقتصادات الناشئة، أو تعرض الشركات إلى مصادرة القيمة (ما يعادل قيمة الأصول)، ويمكن الاتفاق على تجنب مثل هذه الممارسات لجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية ورفع مستويات المعيشة.
وتثير بنود التسوية بين المستثمر والدولة مزيداً من الجدل، ويعود ذلك جزئياً إلى أن رمزية مقاضاة شركة أجنبية لحكومة محلية حيث يرتبط ذلك مباشرة بمعارضة الاتفاقات، وليس من المنطقى التخلى عن الاتفاقات التجارية بسبب معارضة بنود لجان تسوية النزعات بين المستثمر والدولة.
على سبيل المثال، كان هناك اتفاق استثمار ثنائى بين الولايات المتحدة وفيتنام منذ عام 2001 يحوى فى مضمونه قليلاً من العواقب السلبية. وبشكل أكثر عموماً، فإن هناك الآن أكثر من 2000 معاهدة استثمار ثنائى فى جميع أنحاء العالم، منها 41 اتفاقية مع الولايات المتحدة حسب أحدث البيانات، والتى عادة ما يكون من ضمن بنودها شكل من أشكال تسوية المنازعات بين المستثمرين والدولة وكذلك اتفاقية «نافتا» عام 1994 لتحرير التجارة بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا.
وبفضل هذه الاتفاقات التجارية والاستثمارية، ارتفعت مستويات المعيشة العالمية إلى مستويات غير مسبوقة فى غضون تلك المدة الزمنية.
ولا يمكن اعتبار أن السيادة الوطنية اختفت تماماً لمجرد وجود بنود لجان التسوية، فالمعاهدات التجارية تعترف عادة بأن الحكومات لديها مصلحة مشروعة فى تنظيم إجراءات السلامة والحفاظ على البيئة، ومعظم دول العالم التى تشارك فى التجارة عبر الحدود أحرزت تقدماً جيداً فى تلك القضايا.
وبالنسبة للبعض، فإن جزءاً من الانزعاج من لجان تسوية المنازعات مصدره فكرة أن المفاوضات الخاصة تلتف على العملية الديمقراطية، لكن الحقيقة أن هناك سمة أساسية فى معظم الحكومات الديمقراطية، هى أن المشرعين يضعون مؤسسات قانونية تعمل فيما بعد خارج السيطرة المباشرة للعملية الديمقراطية.
فالهيئات التنظيمية، واجتماعات مجلس الوزراء وأعضاء النيابة العامة، على سبيل المثال، كلهم يتخذون القرارات «فى السر»، على الرغم من أن هذا العبارة مضللة. فالحقيقة الأكثر واقعية هى أن الشفافية الكاملة والتغطية الإعلامية المباشرة ليست مناسبة لفئة واسعة من قرارات الحكومة، ولا يمكن عرضها بطريقة مفصلة، وهذا أيضاً من المسلم به على نطاق واسع فى العديد من السياقات غير التجارية، فإذا وقعت حكومة معاهدة، فإنه لا يمكن أن نتوقع أن تخضع لمحاكمها المحلية للبت فى كل الأمور، أو أن كل جزء من المعاهدة يخضع للرقابة الديمقراطية.
ومنذ عام 2015 تقدم 13 طلباً فقط لتسوية النزاع بين المستثمر والدولة ضد الولايات المتحدة.
وعلى مدى عقود لم تخسر الولايات المتحدة قضية واحدة فى مثل هذه الحالات. وعلى نطاق أوسع استخدام لجنة تسوية النزاعات لصالح رجال الأعمال بنسبة 29% فقط من العينة الدولية. وبعبارة أخرى فإن محاكم تسوية المنازعات بالكاد تفيد مصالح الشركات.
فى حين أن عدد القضايا التى تشهد تدخل لجنة فض المنازعات ربما يزداد مع ارتفاع أعداد الاتفاقيات التجارية، فمعظم أشكال النمو والتقدم يتنامى معها التعرض للقانون سواء أحببنا ذلك أم لا.
وعلاوة على ذلك، فإن بعض القرارات السيئة هى ثمن طبيعى لأي
إجراءات قانونية، بما فى ذلك مسار القوانين المحلية فى كل بلد.
ويعد القلق من ارتفاع نسبة الدعاوى القضائية جراء تمرير المعاهدات التجارية عبر الميحط الهادى أو غيرها قلقاً مشروعاً، حيث إن زيادة معدلات التقاضى مشكلة أكثر عمومية فى العديد من البلدان، خاصة قضايا التعويض، لكن سيكون من الغريب وضع اللوم الرئيسى على الاتفاقات التجارية.
وبينما يصبح العالم أكثر تعقيداً وترابطاً، فإن الاتفاقات العالمية تحمل المزيد من سمات القانون الإدارى والدولى والتأثير على القرارات السياسية الداخلية، سواء لتغير المناخ، أو الأنشطة التجارية والاستثمار وكذلك الملكية الفكرية.
وإذا كانت المعاهدات ستؤدى دورها فإنها ببساطة ستتضمن بعض القيود على قرارات الحكومات الفردية، وبالتالى فإنه دائماً سيكون من الممكن انتقاد تلك الاتفاقات على أسس قومية. والحقيقة هى أنه عندما تجرى صفقة – مهما كانت جيدة – فلا يمكنك أن تحصل على كل ما تريد.
المصدر: وكالة بلومبرج
إعداد: ربيع البنا