هل ما زالت هناك سوق موازية لتجارة العملة؟
قد تبدو الإجابة الفورية هى لا، ولكن نحتاج لأن نغوص أكثر فى هذا الموضوع حتى نتبين إذا كان هذا أمراً مقدراً له الاستدامة، أم من الممكن أن تعود هذه التعاملات لتطل علينا بوجهها القبيح. من المؤكد أن بعض، وليس كل، المستوردين قد بدأوا يستشعرون نوعاً من الاستجابة لدى البنوك لتوفير العملة اللازمة للاستيراد بناءً على الاعتمادات المستندية وبناءً على الأولوية التى تعطى لاستيراد السلع الأساسية ومستلزمات الإنتاج.
يأتى ذلك على خلفية جهود حكومية لتوفير العملة سواء عن طريق اتفاقات دولية للمبادلة أو قروض لدعم الاحتياطى أو سندات دولارية مثل التى أعلنت عنها الحكومة يوم الخميس الماضي.
وفى الوقت نفسه، تستمر الإجراءات البوليسية المتمثلة فى وجود مندوب لكل بنك ومندوب للمركزى داخل شركات الصرافة العاملة فى القطاع، وذلك من أجل الرقابة وتطبيق العقوبات على المخالفين. وعلى هامش هذه النقطة أسجل يقينى بأن مثل هذا الإجراء «زى قلته» لأن القاصى والدانى يعلم أن شغل السوق السوداء يتم أكثر داخل المكاتب والمنازل ومن قِبل من أصبحوا فعلياً فى الشارع نتيجة التضييقات الأمنية عليهم ومطاردات المركزى لهم.
طبعاً هناك جدل حول جدوى السماح لشركات الصرافة بفتح الحدود السعرية من عدمه، ومدى قوة تأثيرها على السوق. فمن مميزات السماح للشركات بالتداول الحر مثل البنوك أن النقد سيتوفر بشكل فورى وبأى سعر وأن المحاسبة الضريبية للشركات ستستقيم عوضاً عن الكوارث الدفترية التى تنتظر ميزانيات هذا العام وأيضاً اجتذاب جميع التحويلات من العاملين فى الخارج دون أدنى شك منهم أنهم سيحصلون على قيمة عادلة لعملاتهم بالجنيه المصري، ولكن طبعاً من عيوب هذا النظام انفلات السعر خارج البنوك والتذبذبات العالية التى ستكتنف أسعار الصرف بصفة يومية إلى جانب محاولات البعض العودة للمضاربة.
وهنا أتوقع أن يكون لتأثير توفير العملات داخل القطاع المصرفى الأثر الضاغط الأكبر على محاولات المضاربة، وفى هذه الحالة قد نشاهد تذبذبات لفترات تطول أو تقصر بالمقارنة بنفس الحقبة التى تلت تخفيض عام 2003 والذى قام به رئيس الوزراء وقتها د. عاطف عبيد – غفر الله له – فى جلسة المائدة المستديرة الشهيرة لدورية الإيكونوميست فى 28 يناير من ذاك العام.
الفيصل هنا هو استعادة الثقة.
وهذه جملة سهلة فى كتابتها وصعبة جداً فى تنفيذها، وللأسف أن الساسة فى بلدى والتنفيذيين لا يقدرون صعوبة استعادة الثقة لأنهم لو كانوا يقدرون ما كانوا اتخذوا إجراءات تؤدى لفقدان الثقة فى مثل هذا القطاع الحساس. جميع الإجراءات التى تخرج عن السياق المعهود للسياسة النقدية تعتبر إجراءات بوليسية، ولن يتعامل معها الأفراد أو الشركات إلا بالعزوف والحذر المبالغ فيه. ولهذا السبب نجد ضعفاً فى أحجام تعاملات بيع الدولار وحرصاً مبالغاً فيه على إبقائه بعيداً عن القنوات المصرفية.
السوق السوداء أو البيضاء أو أياً كان لونها ليست عنواناً للفساد بقدر ما هى انعكاس لقوى العرض والطلب والتى تشوبها المبالغات أحياناً ولكنها سرعان ما تصحح من نفسها كلما زاد عدد المشاركين بلا قيود فى التعامل من خلال هذه السوق. هذا ليس كلاماً جديداً، وإنما إعادة اكتشاف للعجلة التى نسيت من قبل متخذى الإجراءات غير الواقعية والذين حاولوا اختراع بديل جديد لها.
هذا ليس دفاعاً عن هذه التعاملات بقدر ما هو تنبيه للعمل على ألا تعود من جديد، وهذا لن يتأتى إلا إذا أمن كل من فى البلاد بأن أسعار الصرف تعكس القيمة الفعلية للعملة. وهذا يختلف طبعاً عن القيمة الحقيقية للعملة التى تقل عن السعر الحالى بكثير ولكنها مشكلة نقص المعروض التى جعلت هذا الفارق.
وللأسف فإن التعاملات الموازية تتوارى الآن ترقباً وحذراً. فهى تترقب مدى وفاء البنوك بمتطلبات العملاء وتحذر من البطش المحيط بهذا السوق. فإذا أمنت الأولى فسوف تتحوط للثانية وعليه فهى عائدة لا محالة إن لم تكن قد عادت وقت قراءتكم لهذه السطور.
