اقتصادنا يا تعبنا….. الحلقة 19..
بعد قراءة لإحدى المقالات حول أن الاقتصاد حياة وليس علماً فقط حول كتابات الاقتصادى الكورى الجنوبى البارز ها جون تشانج Ha-Joon Chang، الأستاذ بجامعة كامبريدج البريطانية.. استوقفتنى كلمة أن الاقتصاد حياة.. قبل أن يكون علماً.. لأن كتب علم الاقتصاد لم تكن كتباً من الهواء، وإنما هى إسهامات علمائها وأفكارهم وتجارب حياة عاشوها قبل أن يضعوا تلك الأفكار والنظريات فى كتب؛ حتى يتعلم من يأتى بعدهم ويطور عليها.. وهى ليست قرآناً وإنما مدارس فكرية تخضع للصواب والخطأ والتجارب المتكررة تضفى عليها وتزيدها نقداً أو ثباتاً.. فتعدل فى مسارها وأسسها أو تنسخ قديمها بجديدها.. وبالتالى هى حياة لا تنتهى مليئة بالتجارب.. وعلى الأجيال اللاحقة التعلم من هذه التجارب والبناء عليها..
وبعد انتقادات لأداء الحكومات العديدة التى تولت دفة القيادة فى مصر وسياساتها منذ يناير 2011 وحتى الآن.. دون أن نرى مصر تقفز إلى المكانة التى تليق بها.. ما هو إلا نقد للذات لتحسن من أدائها وتتعلم من دروس الغير فى تحقيق النهضة والتنمية الاقتصادية المستدامة..
إن التجارب والأزمات التى تمر بها الدول والمسارات التى تلجأ إليها ما هى إلا دروس نتعلم منها كيفية التغلب على أزماتنا.. فأزمات مثل الكساد الكبير مع نهاية العشرينيات من القرن العشرين وأزمات الحروب وإعادة البناء (وهنا ألمانيا واليابان نماذج حية على دول دمرتها الحروب وتقبع حالياً ضمن الدول المتقدمة اقتصادياً) وصولاً إلى أزمات وتجارب الأرجنتين والبرازيل فى ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين وبداية الحادى والعشرين والنمور الآسيوية حتى 1997، ومثلها دول أوروبا الشرقية التى تفككت بعد انهيار الاتحاد السوفييتى لتسلك مسارات النمو منفردة بعد استقلالها، ثم أزمات اقتصادية مثل الأزمة المالية الآسيوية الشهيرة للنمور الآسيوية فى عام 1997، والكساد الأرجنتينى فى عام 1998، ثم إلى الأزمة الاقتصادية العالمية فى عام 2008.. إن كل هذه الأزمات بها من العبر والدروس ما يجعل مصر تغير من وجهتها لا أن تسير فى ذات الدروب التى عمقت من أزمات تلك الدول.. فتجارب كوريا الجنوبية وماليزيا والبرازيل وسنغافورة وغيرها من الدول الآسيوية نماذج صارخة للتعلم منها لأنها بدأت فى ذات التوقيت الذى بدأنا فيه وتخطتنا بمراحل.. وكذلك دول أوروبا الشرقية التى بدأت بعدنا وسبقتنا.. لماذا؟؟ هذا ما سنخوض فيه فى هذه الحلقة والحلقات القادمة..
ولعلى أنهى هذا المقال تمهيداً للحديث عن تجارب الدول التى ذكرتها فى الحلقات القادمة ببعض أفكار ومقولات ها جون تشانج، حينما وصف المؤسسات الدولية (البنك الدولى – صندوق النقد الدولى – منظمة التجارة العالمية) بالثالوث المدنس فى كتابه «ركل السلم بعيدا» لأن ما تمارسه هذه المؤسسات على الدول الفقيرة والنامية من ضغوط تمنعها من اتخاذ نفس الإجراءات الاقتصادية التى تسهم فى تحقيق نموها التى سبق للدول المتقدمة اتخاذها لتحقيق نهضتها الاقتصادية لتصعد الدول المتقدمة على السلم ثم سرعان ما تركله لتمنع أياً من الدول الأفقر منها أو الاقل منها نمواً من صعوده.. وإن كنت أتفق معه فى ذلك هذا لا يعنى تجنب هذه المؤسسات ولكن يجب أن نعرف قواعد اللعب معها ونستفيد أكبر استفادة منها دون أن نهوى باقتصادنا الى التبعية الكاملة.. وقواعد اللعب تحتاج إلى لاعبين ماهرين لديهم تعليم جيد وتجارب جيدة مغلفة بذكاء وحس اجتماعى واقتصادى مختلف.. على أن يكون لدينا ما يسمى «buffer zone» بمثابة مساحة آمنة تمنحنا حرية التحرك.. فكيف استرجعت مصر طابا.. وكيف استغلت مصر هذه المؤسسات خلال الفترة 2004-2010 دون قروض مجحفة..
والمقولة الثانية التى تعجبنى له فى حواره مع صحيفة الهافينجتون بوست فى أغسطس 2014 حول كيف نستخدم الاقتصاد (How to «use» Economics) عندما أشار إلى أن (الاقتصاد أكبر بكثير من السوق) حيث يدور علم الاقتصاد هذه الأيام حول السوق. فأغلب علماء الاقتصاد حالياً يتبعون المدرسة النيوكلاسيكية – وهذا ليس عيباً- التى ترى الاقتصاد كشبكة من علاقات التبادل – الأفراد يشترون الأشياء من الشركات ويبيعون قدرتهم على العمل بينما تشترى الشركات وتبيع من الأفراد والشركات الأخرى.
ولكن لا يجب مساواة الاقتصاد بالسوق، فالسوق ما هو إلا أحد أشكال تنظيم الاقتصاد وهو يستحوذ على جزء صغير من الاقتصاد الحديث. فكثير من الأنشطة الاقتصادية يتم تنظيمها بتوجيهات داخلية فى الشركات وإلى جانب ذلك فإن الحكومة لها تأثير على – وتباشر بنفسها- الكثير من قطاعات الاقتصاد… والحكومات – والمنظمات العالمية مثل منظمة التجارة العالمية – ترسم حدود السوق، وتضع قواعد العمل داخله. فهربرت سايمون، مؤسس المدرسة السلوكية، قدر الأنشطة الاقتصادية التى تتم داخل إطار السوق فى الولايات المتحدة الأمريكية بحوالى 20% فقط.
ونتيجة التركيز على السوق أدى ذلك إلى تجاهل كثير من علماء الاقتصاد لمجالات كثيرة من الاقتصاد فى حياتنا، ما أدى إلى نتائج سلبية على جودة حياتنا.
وأدى إهمال الإنتاج مقابل الاهتمام بالتبادل إلى أن سهل على واضعى السياسات فى بعض الدول أن يرتضوا بانهيار الصناعة من خلال النظر إلى الأفراد كمستهلكين، وليس كمنتجين، ما أدى إلى إهمال مواضيع مثل جودة العمل (على سبيل المثال هل العمل آمن، هل العمل ممتع، هل العمل ظالم …) والتوازن بين العمل والعيش… ولعل المتابع لسلوكيات المواطنين فى العديد من الدول الغنية سيلاحظ أن إهمال هذه النواحى من الحياة الاقتصادية يفسر جزئياً عدم شعور أغلب الناس بالرضا، بالرغم من أنهم يستهلكون من المنتجات والخدمات أكثر من أى وقت مضى.
لا شك أن الاقتصاد أكبر بكثير من السوق، ولن نستطيع بناء اقتصاد جيد – أو مجتمع جيد – إلا إذا نظرنا إلى ما هو وراء السوق… الصناعة والانتاج والتصدير عوامل «فرقت كتير» made a big difference مع دول حققت نمواً دون ضغوط المؤسسات الدولية..
وللحديث بقية عن تجارب بعض الدول فى الحلقة القادمة..
وما نبغى الا إصلاحاً…