تصاعد السخط العام ضد العولمة يدعم تجارة الحدود المغلقة
الإنترنت وثورة التكنولوجيا سلاح أصحاب الأعمال فى وجه الإجراءات الحمائية
يعتمد المستثمرون، مثلهم مثل علماء الفلك أو علماء الأنثروبولوجيا، على النماذج الفكرية لفهم الكون المعقد وتوجيه خياراتهم الفورية وتحديد الأولويات لمزيد من البحث.
ولكن فى أوقات متتابعة تفرض بعض التغيرات ضرورة إعادة تقييم ما نعتقد أنه أمر مسلم به خصوصاً الاضطرابات السياسية على غرار الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى أو انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة.
وفى نهاية العام الصاخب 2016، ما زالت الأسواق العالمية تقفز إلى أرقام قياسية جديدة، ولكن يجب ألا يكون المستثمرون مشتتين، ومع بداية 2017 يحتاجون إلى إعادة تقييم الطريقة التى يعمل بها الاقتصاد العالمى لأنه حتى لو بقيت بعض أساسيات السوق دون تغيير، فالعديد من الأساسيات الأخرى تغيرت بشكل واضح.
فلعقدين على الأقل، تقبل معظم المستثمرين إجماع الاقتصاديين وعلماء السياسة على أن العالم أصبح قرية صغيرة وأكثر اندماجاً، ومع صعود الصين والهند بما لديهما من ثلث سكان العالم أصبحتا فجأة جزءاً من القوى العاملة، وجزءاً من المستهلكين، أيضاً، فى الاقتصاد العالمى.
ووفرت التكنولوجيات الجديدة، الاتصالات الرخيصة والروبوتات المتقدمة، وتحليل البيانات الدقيقة على نحو متزايد، وهو ما مكن الشركات من تقليص حجم مخزوناتها ودمج سلاسل التوريد.
وفى الوقت نفسه، وضع القادة السياسيون، تدريجياً، القواعد التنظيمية والتجارية التى ألغت الرسوم الجمركية، وجعلت عملية عبور الحدود مبسطة، وفتحت أسواقاً جديدة ومثيرة.
وحاولت الشركات الجيدة الاستفادة من الفرص والمستثمرين الجدد وتطلعت للاستحواذ على الشركات التى ظهرت بإمكانات واعدة.
وعندما تراجع الأداء التجارى بعد الأزمة المالية لعام 2008، افترض معظم صناع السياسة، أن الاتفاقات التجارية الجديدة سوف تعزز النمو مرة أخرى، ووضعت إدارة الرئيس الأمريكى باراك أوباما من جانبها تصوراً لمنطقة تجارة حرة واسعة تشمل كلاً من آسيا وأوروبا.
وتبلور ذلك فى اتفاقيتين كبيرتين؛ الأولى هى اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، وتضم 12 دولة، والثانية اتفاقية الشراكة والاستثمار عبر الأطلنطى، وهما اتفاقيتان تضعان الولايات المتحدة مركزاً لسوق متكامل يضم ثلثى الاقتصاد العالمى.
ولكن هذا الأمل قد تلاشى الآن؛ لأن الحركات الشعبوية تنتشر فى جميع أنحاء الغرب مستفيدة من السخط العام حول بزوغ النظام العالمى، وقد نجح فى الانتخابات مناصرو هذه الحركات.
ومنذ انتخاب حزب مناهض لمؤسسة الاتحاد الأوروبى وهو حزب سيريزا لقيادة الحكم فى اليونان قبل عامين تقريباً، يبدو أن الناخبين أخذوا منها فكرة الحكومات الوطنية التى تتصدى للمنظمات فوق القومية والمتعددة الأطراف مثل المفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولى.
وبالمثل، فسر كثير من المراقبين موافقة البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبى فى استفتاء يونيو 2016 بأنها محاولة لاستعادة السيطرة على الحدود الوطنية.
وعلى الرغم من أن المؤرخين سيناقشون لفترة طويلة أسباب فوز ترامب حتى بعد انتهاء مدة حكمه، فمن الواضح أن العديد من أنصاره يريدون بالمثل لأمريكا إغلاق بابها، وعدم الانفتاح الخارجى، والاعتماد على نفسها أكثر من الأصدقاء الأجانب.
وبجمع هذه النتائج السياسية، فإن القوى المناهضة للمؤسسات والاتفاقات التجارية العالمية تتحرك بحماس إلى باريس وبرلين قبل الانتخابات الفرنسية والألمانية فى العام الجديد، ما يعنى عرقلة مزيد التكامل الاقتصادى والسياسى عالمياً، على الأقل فى المدى القريب.
وفى الوقت الراهن، فإن البلدان تتجنب الصفقات التجارية الكبرى، وتبذل جهوداً لمواءمة أنظمتها مع الظروف الحالية.
ومن المهم أن يستعد المستثمرون لمواسم حصاد صعبة؛ حيث ستواجه الشركات العاملة على الصعيد الدولى قريباً ارتفاعاً فى التكاليف، كما أن عملية نقل البضائع ستصبح أكثر صعوبة عبر حدود الدولة، وكذلك توظيف العمال الأجانب، ومن الطبيعى أن يتوقع الخبراء تراجع العائدات.
حتى صراع التجارة المعتدل بين الولايات المتحدة والمكسيك، على سبيل المثال قد يكون مكلفاً للغاية بالنسبة لشركات صناعة السيارات؛ نظراً إلى أن بعض المكونات تعبر، حالياً، الحدود مع الولايات المتحدة أكثر من ثمانى مرات خلال عملية الإنتاج.
ويجب على شركة «بوينج» أن تسرع من نشاط سلسلة التوريد العالمية لإنتاج طراز «دريملاينر» الخاصة بها وإلا فإنها ستواجه صعوبة فى ذلك.
إذاً، يريد الناخبون الحد من التنقل عبر الحدود للسلع والخدمات، والبشر أيضاً، ولذلك سوف يتعين على الشركات اعتماد نموذج جديد يبنى داخل حدود البلاد، ويتطلب ذلك من المستثمرين البحث عن الشركات التى يمكن أن تحقق أرباحاً دون الحاجة كثيراً إلى السفر من المعابر الحدودية أو تلك الشركات التى يمكنها تحقيق الأرباح على الرغم من زيادة النزعات الحمائية للاقتصادات الكبرى.
ويمكن تلخيص القول فى أن السوق يبحث عن الشركات التى يمكنها التواؤم مع الحكومات الشعبوية والقواعد التنظيمية المتناقضة معها أكثر من تلك التى يمكنها أن تعزز الإنتاجية، وتفتح أسواقاً جديدة فى ظل تشييد مزيد من الجدران الحمائية حول الأعمال.
وفى الوقت نفسه، فإن النموذج الجديد الذى سينشأ لا يزال عليه الأخذ فى الحسبان القوى الرئيسية التى حافظت على النموذج القديم، وخاصة قوى العولمة والابتكار التكنولوجى التى رغم مقاومة الناخبين لن تتوقف.
ففى الاقتصاد العالمى، اليوم، توجد زيادة إنتاجية كبيرة تأتى من شركات تحليل بيانات العملاء، وخطوط الإنتاج على نطاق واسع، والشركات التى تقوم بذلك بشكل جيد تكون قادرة على تصميم أفضل للمنتجات وبأقل التكاليف لكنها كانت ستحقق مكاسب كبيرة إذا كان يمكنها مقارنة البيانات عبر الحدود والاختصاصات المختلفة ومن المهم استمرار هذا النوع من الأعمال.
وفى الوقت نفسه، فإنه من غير المنطقى التأثير على التغيرات الناجمة عن وجود شبكة الإنترنت والروبوتات التى تعزز الإنتاجية التى تجبر الحكومات على التعاون.
ومن الضرورى، أن يفكر المستثمرون بدهاء للبحث عن الشركات التى يمكن أن تصمد أمام الثورة الشعبية الحالية ضد العولمة والاستفادة من الاتجاهات الاقتصادية والتكنولوجية الناشئة.