اقتصادنا يا تعبنا….. الحلقةالـ 23..
حتى عام 1997 كانت كوريا الجنوبية نمرا اقتصاديا حقق معجزة اقتصادية حتى تعرضه للأزمة الاقتصادية فى عام 1997.. فقد استغلت كوريا المنح والمعونات واستفادت من الاستثمارات ونقل التكنولوجيا والمعرفة واهتمت بالتعليم وكانت الحكومة جيدة جدا وشكلت مع الشعب والقطاع الخاص صفا واحد وكانوا على قلب رجل واحد.. كل له دوره فى التنمية.. فكان حصادها نموا اقتصاديا مبهرا مستمرا.. اختارت الأصعب والأكثر استدامة.. جعل منها معجزة اقتصادية ونموذجا نتعلم منه دون اللجوء الى الاقتراض من صندوق النقد الدولى.
ولكن حدث ما حدث.. ولكل جواد كبوة.. فقد تعرضت كوريا الجنوبية وغيرها من النمور الآسيوية لأزمة مالية كبير خلال الفترة من يونيو 1997 الى يونيو 1998 أثرت على اقتصادات تلك الدول سلبيا وبشكل كبير نال من ثمار نموها.. فقد انخفضت فيها قيمة عملتها الـ «وون» بحوالى 41%..(لم تتخذ قرارا بالتعويم ولكنه انخفض بسبب الأزمة) وارتفعت نسبة البطالة من 4.2% فى عام 1996 الى 15.3% (1998-2000)، وقامت الشركات الأجنبية بسحب رءوس اموالها من السوق ونقلها إلى بلاد اخرى.
ولأن الاقتصاد الكورى اعتمد اعتماداً كبيراً على الاستثمارات الخارجية، خاصة اليابان والولايات المتحدة الأمريكية، فى نموه الاقتصادى، فقد أدى سحب هذه الشركات استثماراتها إلى الخارج انهياراً سريعاً فى الاقتصاد الكورى اثناء هذه الأزمة.
وبجانب الشركات التى سحبت استثماراتها من كوريا الجنوبية، هناك شركات اخرى اعلنت افلاسها ومجموعة شركات اخرى تم الاستحواذ عليها من قبل شركات اخرى، مثل: استحواذ شركة «جنيرال موتورز» للسيارات على شركة «دايو موتورز» للسيارات، وايضاً استحواذ شركة «هيونداى» للسيارات على شركة “كيا موتورز”، وبسبب انسحاب بعض الشركات وافلاس البعض الآخر ادى ذلك إلى ارتفاع الدين العام للبلاد مقارنة بالناتج المحلى لها اثناء الأزمة.
وعلى الجانب الآخر، انخفض التصنيف الائتمانى فى كوريا الجنوبية من قبل مؤسسة موديز “MOODY’S” من المستوى “A1” إلى المستوى “A3” فى نوفمبر 1997 واستمرت فى ذلك إلى ان وصلت إلى المستوى “B2″ فى ديسمبر من نفس العام.
واضطرت الحكومة الكورية بسبب هذه الأزمة والحد من تداعياتها فى ظل النزيف المستمر للموارد والسيولة إلى الموافقة على قبول عرض صندوق النقد الدولى بتقديم مساعدات اقتصادية بـ57 مليار دولار امريكى وخضوع الاقتصاد الكورى الى مراقبة الصندوق وقيوده، وطلب صندوق النقد الدولى من الشركات الكورية الكبرى ببعض الإصلاحات مقابل المعونات المالية وتتلخص هذه الإصلاحات فى النقاط التالية:
• خفض الشركات التابعة لها من خلال شرائها او دمجها بحلول عام 1999 على سبيل المثال، خفضت مجموعة شركات هيونداى عدد شركاتها من 68 شركة إلى 30 شركة.
• التركيز على المجالات الرئيسية المحددة (على سبيل المثال: تركز مجموعة دايو على صناعة السيارات).
• خفض الديون لكى تصل نسبة الديون من رأس المال إلى اقل من 2:1.
• القضاء على التبادل المالى بين الشركات التابعة وتوسيع الاستقلال المالى.
• انفصال ملكية الشركة عن ادارتها.
وعليه، اتخذت الحكومة الكورية الإجراءات اللازمة للحفاظ على الاستقرار لقيمة الـ”وون” الكورى ومنع الأموال من الخروج، فارتفعت سعر الفائدة بنسبة كبيرة واجرت اصلاحا جذريا فى النظام المالى والقضاء على الفساد. وتعرضت القطاعات المالية لعمليات اصلاح، فتم دمج المؤسسات المالية الضعيفة مع المؤسسات المحلية او الدولية، وتمت خصخصة كثير من مؤسسات الحكومة والمؤسسات العامة التى تمتعت بمزايا تفضيلية من الحكومة الكورية، وخلال عمل اصلاح البنية الاقتصادية تم فقدان مليونى فرصة عمل، وانخفضت الاستثمارات من الخارج والداخل، وانخفض الناتج المحلى الإجمالى من 6،2% عام 1997 الى 5،8% فى عام 1998.
كانت الحكومة الكورية الجديدة التى تم تعيينها حكيمة وشفافة فى تقييم الوضع وسيناريوهات التحرك واعلنت التزامها باستكمال البرنامج الإصلاحى الذى ابرمته الحكومة السابقة فى 1997 مع الصندوق وتعاون الشعب الكورى معها طوعا من اجل سداد الديون الخارجية وتقدير الموقف، حيث قام الشعب الكورى الذى احس بثمار التنمية السابقة على الأزمة بالتبرع بالمجوهرات بما فيها الذهب للحكومة الكورية، الأمر الذى ادى إلى زيادة احتياطات الذهب فى البلاد، من اجل انعاش البلاد التى عانت من الأزمة المالية.
وبعد سنة على اتخاذ الحكومة اجراءات مشددة ومساهمة المواطنين الكوريين، بدأت قيمة الـ”وون” تزداد تدريجيا وبدأ الاقتصاد الكورى يتعافى مرة اخرى، ثم شهدت البلاد ازديادا كبيرا فى مجالات الانتاج والاستثمار والواردات والصادرات والقوى الشرائية المحلية وانخفاض معدل البطالة.
كان المواطن الكورى فى قلب الحدث ولم يكن حقلا للتجارب.. وكان الاصلاح واستعادة الثقة يسير على خطى ثابتة وإرادة قوية لعودة النهضة الاقتصادية من جديد.
وفى عام 1999 اسس اكثر من 30000 شركة جديدة مما جعل الحكومة الكورية تقلق من الفورة الاقتصادية الصاعدة، وبعد عام 2000 بدأ الاقتصاد الكورى يتخلص من الأزمة المالية تخلصا تاما وعاد إلى حالته الطبيعية وارتفعت قيمة الـ “وون” التى بلغت 2000 “وون” فى مقابل الدولار الأمريكى خلال الأزمة المالية بشكل تدريجى إلى 900 “وون” مقابل الدولار الواحد عام 2006، وسجل مؤشر البورصة للأسهم والسندات المالية رقما قياسيا فى ديسمبر 2006، واصبحت البورصة الكورية مقصدا للاستثمارات من جميع انحاء العالم واصبح معدل البطالة 3% فى عام 2002 اى اقل من نسبة 6،7% فى الدول الأعضاء فى منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية.. وشهدت كوريا زيادة مطردة فى الصادرات التى تقود النمو الاقتصادى الكورى كما ذكرنا فى مقالات سابقة. واظهرت الاحصائيات الاقتصادية ان كوريا الجنوبية تغلبت على الأزمة المالية ووعادت من جديد لتشهد طفرة اقتصادية كدولة كبرى فاعلة فى التجارة والاقتصاد العالمى.
الدولة التى تؤسس جيدا لا يضيرها ان تتعثر فتقوم مرة اخرى اقوى بكثير مما سبق.. طالما جاءت بالفريق القادر على تحقيق ذلك برؤى استراتيجية واقتصادية واجتماعية واضحة.. ويبقى المواطن هو محور التنمية المستدامة..
وما نبغى إلا إصلاحا..
