فى الجزء الأول من المقال، استعرضنا أسباب الفساد الاقتصادية والإدارية والقانونية. واليوم سوف أتناول بالعرض باقى الأسباب التى تسلط الضوء على منظومة الفساد العميق السائد فى مصر.
عدم توافر الشفافية الكافية
إن توافر البيانات والمعلومات الدقيقة والحديثة هو ركن أساسى لدعم جهود مكافحة الفساد والحد منه. ولا بد من إتاحة هذه البيانات والمعلومات بحرية، إلا إذا كانت سرية أو محظورة التداول لأسباب ترجع إلى الأمن القومي. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من أن مصر قد صدَّقت على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد فى عام 2005، والأخذ بالاعتبار المادة 68 من دستور 2014، فإنه توجد صعوبات فى مجال إتاحة المعلومات المتعلقة بالشأن العام للمواطنين، وهى بساطة إجراءات إتاحة المعلومات، وانخفاض التكلفة المادية للاطلاع على المعلومات، وإتاحتها فى زمن معقول.
فاعلية أجهزة مكافحة الفساد
تتعدد فى مصر الأجهزة المعنية بمكافحة الفساد، ويحيط بها كثير من المعوقات تؤثر على فاعلية جهود المكافحة. ومن أبرز العقبات وجود بعض القيود الإجرائية بشأن شاغلى الوظائف العليا بالجهاز الإدارى للدولة. كذلك استغلال الجهة الإدارية لسلطتها التقديرية، بما قد يخالف ما انتهى إليه رأى الجهة الرقابية، وبما يجهض جهود أجهزة مكافحة الفساد. كما أن الأجهزة الرقابية تفتقر إلى الحصانات الكافية والموارد المادية والبشرية والاستقلالية المناسبة؛ حيث إن بعضها يتبع السطلة التنفيذية. وحينما يتم حفظ البلاغات فى بعض قضايا الفساد، لا يتم الإفصاح عن أسباب الحفظ من قبل جهات التحقيق، ما يعطى الانطباع أن شيئاً ما يدور فى الخفاء للتستر على الفاسدين.
كما أشرت آنفاً، على الرغم من تعدد أجهزة مكافحة الفساد، فإنها تعانى محدودية آليات التنسيق بينها وعدم الاستعانة بتطبيقات ونظم تكنولوجية حديثة تسهل التشاور وتبادل المعلومات الخاصة بالتحريات والتحقيقات.
وفى سياق آخر لتعدد جهات مكافحة الفساد، يلاحظ أن غالبية المواطنين فى مصر ليس لديها الوعى الكافى عن تلك الجهات ودورها وكيفية الوصول إليها، وخصوصاً فى ظل عدم تعريف الأجهزة الرقابية بنفسها وبأدوارها للمواطن.
ومن ناحية أخرى، كان كثير من المواطنين يلجأ إلى إعداد عشرات من الشكاوى، ويقوم بإرسالها إلى جميع الجهات المختصة وغير المختصة ابتداءً من رئاسة الجمهورية، وحتى رئاسة الحى الذى يقطن فيه، وهو الأمر الذى أدى إلى تكدس الشكاوى أمام جميع الجهات الرقابية، ما أفقد آلية الشكوى والدور المهم الذى يمكن أن تلعبه فى مكافحة الفساد.
أسباب اجتماعية
يعد انتشار قيم الشفافية والنزاهة والأمانة فى المجتمعات من أهم وسائل الحماية ضد تفشى جرائم الفساد بها، لكنّ المجتمع المصرى خلال السنوات الأخيرة أصبح يعانى مظاهر اجتماعية عدة أثرت على هذه القيم بشكل سلبي.
ويظهر التراجع فى القيم والعادات السلوكية جلياً من خلال انتشار سمات سلوكية سلبية كانت نتاج العديد من الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتعاقبة.
وجسدت السينما المصرية أسوأ السمات السيئة فى المجتمع، ما أثر فى نفوس المواطنين، وخاصة الشباب، وزين لهم أنماطاً سلوكية، وتطلعات نحو الثراء لا تتحقق فى الأحوال العادية، بينما يحققها اللجوء إلى الممارسات الفاسدة والكسب غير المشروع.
ومن المؤسف أن المواطن المصرى أصبح لديه قناعة راسخة بعدم قدرته على قضاء مصالحه دون اللجوء إلى الواسطة. نتيجة ذلك أدت الأسباب السابق المشار إليها إلى ظهور ثقافة جديدة، وهى التسامح مع الفساد وإظهاره على أنه وسيلة مقبولة اجتماعياً للحصول على الحقوق.
أما وقد أوجزت الأسباب الرئيسية للفساد، يبقى أن أشير إلى أن المواطن، أيضاً، يتحمل المسئولية بامتناعه عن الإبلاغ عن وقائع الفساد؛ خشية التعرض لردود فعل انتقامية. كما أن مؤسسات المجتمع المدنى مسئولة عن ضعف مشاركتها فى التعريف والتوعية بمشكلة الفساد وضعف ممارستها للمساءلة والمحاسبة فى مجال مكافحة الفساد.
[email protected]