قبل الحديث عما فعله لولا دى سيلفا لتحقيق المعجزة التنموية البرازيلية، ينبغى الإشارة الى حجم وطبيعة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية عند وصول «لولا» للحكم فى 2003 لتوضح لنا كيف كان الوضع سيئا عند توليه مقاليد الحكم بعد فوزه فى الانتحابات وكانت هذه المشكلات كما يلى:
1- مشكلات اقتصادية، وقد كان منها: مشكلة انخفاض قيمة الريال البرازيلى أمام الدولار الأمريكي، والتضخم وارتفاع مستويات الدين العام سواء الخارجى أو الداخلى – فتجربة البرازيل فى الثمانينيات «العقد الضائع» مع صندوق النقد الدولي، أدت إلى اقتراضها أموالًا جديدة لسداد القروض القديمة، وشهد هذا العقد نقلا هائلا للثروة الوطنية إلى خارج البلاد حيث دفعت الحكومة البرازيلية بين عامى 1985 و1989 (148) مليار دولار: 90 مليار دولار منها لفوائد القروض الأجنبية؛ فازداد الوضع الاقتصادى سوءا وهو الأمر الذى أدى إلى أزمة الثقة فى الاقتصاد مع تراجع معدلات النمو، بالإضافة إلى مشكلة النقص الحاد فى توصيل الكهرباء إلى مساحات شاسعة من البلاد، وهو ما يعيق مشروعات التنمية الزراعية والصناعية بشكل كبير ومن ثم أيضا معدلات النمو.
2-مشكلات اجتماعية: منها على سبيل المثال مشكلة التسرب من التعليم وتردى أحوال المدارس بشكل عام، وانتشار الجريمة المنظمة وخاصة تجارة المخدرات شأنها فى ذلك شأن معظم دول القارة. إلى جانب مشاكل الجوع والبطالة والفقر الحاد والتفاوت الشديد بين طبقات المجتمع، الذى كان ينقسم بوضوح شديد إلى طبقتين، الأولى عبارة عن شريحة رفيعة جدا من الأغنياء (غنى فاحش) فى مقابل شريحة عريضة من الفقراء (فقر مدقع) مع شبه اختفاء للطبقة المتوسطة للتفاوت الاقتصادى وانعدام شبه كامل للعدالة الاجتماعية.
وفى البرازيل كانت المشكلات الاقتصادية والاجتماعية أكثر تداخلا وتعقيدا. كمشكلتى التسرب التعليمى للأطفال وعصابات المخدرات، حيث يتسرب الأطفال الفقراء للعمل لدى عصابات المخدرات، وتلك العصابات تقاوم بشدة جميع برامج الإصلاح الحكومى للأحياء الفقيرة لأن هذا الإصلاح من شأنه الإضرار بتجارتها، ومن ثم يزيد الفقر والجوع بسبب عدم الحصول على التعليم وهكذا كذلك فإنه وبسبب الفقر لجأت الدولة مرارا للاستدانة من الخارج لتوفير الاحتياجات الأساسية ولكن زيادة هذه الديون أدى بالبلاد إلى أزمة ثقة قوية حجبت عنها الاستثمارات الأجنبية بل والمحلية ومن ثم تناقصت المشروعات الاستثمارية، وهو ما أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة ومعدلات الفقر وهكذا.
إن «لولا» صاحب الـ57 عاما الذى لم يكمل تعليمه فى طفولته تاركا التعليم من الصف الخامس وتجرع الفقر والعناء طيلة حياته والنضال فى العمل النقابى للدفاع عن حقوق العمال، تسلم مقاليد حكم دولة تشرف على الإفلاس لعدم قدرتها على سداد دين خارجى كبير، وتعانى من أزمة ثقة حقيقية حالت دون حصولها على قروض جديدة بدعوى عدم قدرة الاقتصاد الوطنى على السداد.
ومع تولى لولا مقاليد الحكم فى 2003 سادت حالة من الخوف والترقب بين أوساط رجال الأعمال والمستثمرين المحليين من أن يتبنى الرئيس الجديد سياسات اقتصادية يسارية على خلاف مجمل الرؤساء المتلاحقين منذ بداية الحقبة المدنية فى منتصف الثمانينيات ومن قبلهم الحكومات العسكرية المتعاقبة لكن ما حدث كان أمرا مختلفا تماما فكان مدركا أن للأغنياء أيضا حقوقا وللطبقة الرأسمالية مصالح ومطالب، وأن الفقراء يجب أن يكون لهم الأولوية لأنهم يحتاجون إلى الإعانات لتكون حياتهم أفضل، وفيما يلى تفاصيل سياسة «لولا» الاقتصادية لتحقيق النمو ومعالجة الفقر والخروج من شبح الإفلاس:
1- السياسة المالية: تنفيذ برنامج للتقشف: بهدف سد عجز الموازنة والقضاء على أزمة الثقة، استكمل لولا برنامج صندوق النقد الدولى الذى كان قد بدأه سلفه «كاردوسو» على غير توقعات ومخاوف الطبقات العليا، ولجأ للصراحة والمكاشفة وأعلن أن سياسة التقشف هى الحل الأول والأمثل لحل مشاكل الاقتصاد، وطلب دعم الطبقات الفقيرة له والصبر على هذه السياسات، وقد كان له هذا بسبب شعبيته ونجاحاته المتتالية.
وقد أدى برنامج التقشف إلى خفض عجز الموازنة وارتفاع التصنيف الائتمانى للبلاد واستعادة الثقة فى الاقتصاد البرازيلي، وتدفقت الى البرازيل نحو 200 مليار دولار استثمارات مباشرة من 2004 وحتى 2011، وقد أدت هذه الاستثمارات إلى رفع الطاقة الإنتاجية للدولة وهو ما يعنى توفير فرص عمل جديدة ومن ثم المساهمة فى حل مشكلة الفقر وبعد أن كان صندوق النقد يرفض إقراض البرازيل فى أواخر عام 2002 أصبح الآن بعد ثمانى أعوام من العمل فى برنامج لولا الاقتصادى مدين للبرازيل بـ 14 مليار دولار.
2- السياسة النقدية، تغيير سياسات الإقراض تم توفير تسهيلات ائتمانية، حيث خُفضت سعر الفائدة من 1.25% إلى 8.75% وهو ما سهل الإقراض بالنسبة لصغار المستثمرين، مما أدى الى تسهيل إقامة المشروعات الصغيرة وتوفير فرص عمل ورفع مستوى الطاقة الإنتاجية والنمو والحد من مشكلة الفقر، وكذلك استهداف معدلات منخفضة من التضخم حيث بلغ فى السنة الرابعة من توليه الحكم فى 2007 حوالى 4%.
3- التوسع فى الزراعة واستخراج النفط والمعادن، فالبرازيل تمتلك قدرات طبيعية ضخمة من أراضٍ زراعية شاسعة وانهار وأمطار بوفرة كبيرة ومناخ جعل منها منتجة لمحاصيل زراعية متميزة عليها طلب عالمى وغير متوفرة فى بلاد أخرى مثل البن وأنواع من الفواكه، وكذلك أيضا ثروات معدنية ونفطية هائلة وقد اعتمدت البرازيل على تصدير هذه المنتجات الخام فى السنوات الأولى فى حكم «لولا» وقبل الأزمة العالمية فى 2008 واستفادت من ارتفاع أسعار المواد الخام فى الأسواق العالمية وهو الأمر الذى أدى بالتبعية إلى سد العجز فى ميزان المدفوعات الذى كان يعانى منه الاقتصاد البرازيلى قبيل عام 2003.
4- التوسع فى الصناعة، حيث تم توجيه السياسات الاقتصادية فى هذا الشأن إلى الاهتمام بشقين للصناعة، الأول هو الصناعات البسيطة القائمة على المواد الخام مثل تعدين المعادن والصناعات الغذائية والجلدية والنسيج، وهى كانت موجودة بالفعل ولكنها شهدت توسعات نتيجة للنهوض فى الزراعة والاكتشافات البترولية ومن ثم التوسع فى هذه الصناعات والتصدير كما سبق الإشارة. أما الشق الثانى فهو الصناعات التقنية المتقدمة، حيث خطت البلاد خطوات واسعة فى العقد الأخير فى صناعات السيارات والطائرات، ومن أهم الأمثال شركة (امبرايرEmbraer-)، والتى تعتبر ثالث أكبر شركة تصنيع طائرات تجارية بعد إيرباص وبوينغ وأكبر شركة مصدرة فى كل البرازيل، وتمثل طائرات شركة إمبراير 37% من أسطول شركات الطيران الإقليمية فى أمريكا.. وقد تم إنشاء هذه الشركة من قبل النظام العسكرى فى 1969 ولكنها ظلت شركة خاسرة، حتى تم خصخصتها فى 1994 فى عهد الرئيس الأسبق «كاردوسو»، ومن ثم أخذت فى التقدم ولكنها حققت نجاحا كبيرا ومتميزا فى السنوات الأخيرة فى عهد سيلفا.
5- تنشيط قطاع السياحة- بما تمتلكه من طاقات طبيعية نادرة ومذهلة من غابات وشواطئ وجبال مؤهلة وبقوة لاجتذاب أفواج سياحية كبيرة، صاحبتها جهود مبذولة لتنشيط السياحة، وابتكرت البرازيل نوعا خاصا من السياحة يعرف بسياحة المهرجانات، من خلال ابراز التراث الشعبى بالاحتفال عن طريق المهرجانات الجماهيرية التى تشهد حالة من الاحتفال الجماعى فى الشوارع برقصات السامبا والموسيقى والألوان والاستعراضات المبهرة، وقد نجحت فى الترويج لمثل هذا اللون الخاص من السياحة مما ساهم كذلك فى إنعاش الاقتصاد وموارده.
6- الطرق المباشرة لحل مشكلة الفقر (الإعانات الاجتماعية) ورفع مستويات الدخل.. وأهمها سياسة الإعانة البرازيلية المعروفة بـ (بولسا فاميليا)، وهو برنامج بدأ منذ منتصف التسعينيات أى فى عهد «كاردوسو» قبل وصول «لولا» للحكم، ولكنه استمر فى متابعة هذا البرنامج ويعود له الفضل فى توسيع نطاق المنفعة من هذا المشروع وضخ طاقة اكبر وأموال أكثر فيه…وقد كان إجمالى الإنفاق على البرنامج يصل إلى 0.5% من إجمالى الناتج المحلى بتكلفة تقدر بين 6 و9 مليارات دولار.. ويقوم البرنامج على أساس إعطاء معونات مالية للأسر الفقيرة بقصد رفع مستواها وتحسين معيشتها، على أساس أن تُعَرف الأسر الفقيرة بأنها الأسرة التى يقل دخلها عن 28 دولار شهريا.. وتم ربط هذه المعونات بشروط صارمة تشمل التزام الأسرة بإرسال أطفالها للتعليم والالتزام بالحصول على الأمصال واللقاحات للأطفال بشكل منتظم.. وبعد التأكد من التزام الأسرة بالشروط السابقة، تحصل الأسرة على دعم بمتوسط يبلغ تقريبا 87 دولارا شهريا وهو ما يعادل 40% من الحد الأدنى للأجر فى البلاد، وتصرف الإعانة عن كل طفل بحد أقصى ثلاثة أطفال، كما تصرف هذه الإعانات للأم بهدف ضمان صرفها لتحسين ظروف الأطفال والأسرة… وقد كانت انجازات هذا البرنامج باهرة خلال عهد لولا، فقد وصل عدد المستفيدين إلى نحو 11 مليون أسرة، (64 مليون شخص) بما يعادل حوالى 33% من الشعب البرازيلي.. لقد كان مشروعا واقعيا أدى إلى نتائج ملموسة، مثل التمكن من العيش بشكل أفضل والحصول على الطعام واقتناء بعض السلع المعمرة لأول مرة فى حياتهم..
برامج «لولا» لم تقضى على الفقر تماما ولكنها حركت ملايين الأسر من منطقة الفقر إلى منطقة «الطبقة الوسطى الجديدة»، ليتراوح دخلها من 457 إلى 753 دولارا شهريا.. فقد أشار أحد تقارير البنك الدولى أن دخل أفقر 10% من السكان كان يزيد بنسبة 9% سنويا، فى حين كان يزيد دخل الطبقات الأغنى بنسبة تتراوح بين 2-4% سنويا، وهذا يعنى تقليل الفجوة بين الطبقات بصورة تدريجية… كما تشير الأرقام خلال عهده إلى أن نصف سكان البلاد زاد دخلهم خلال العقد الأخير بنسبة 68% فى المتوسط..
إنها العدالة الاجتماعية عن طريق رفع الحد الأدنى للأجور وإعطاء الإعانات للأسر الفقيرة، وليس عن طريق تبنى سياسات التأميم، بمعنى انه ترك قمة المجتمع لتعمل فى اطار تنظيمى مشجع وعمل على تحسين قاعدة المجتمع.. وعلى الرغم من المساعى الحثيثة لمقاومة الفقر، إلا أن الفقر ما زال موجودا والتفاوت الاجتماعى مازال كبيرا ولكنه اقل مما كان وبنسب ومعدلات كبيرة.. وقد صرح الرئيس لولا فى احد اللقاءات التليفزيونية فى هذا الشأن (انه لا يمكن حل مشكلات 500 سنة فى 8 أعوام فقط… لقد بدأت عملية العدالة الاجتماعية وعليها أن تستمر لتؤتى ثمار اكبر… وأنا أرى ان المهم فى التقدم الاقتصادى ليس التقدم على مستوى الناتج المحلى الإجمالى فقط ولكن الأهم هو الإنجاز فى مجال السياسات الاجتماعية أو العدالة الاجتماعية لقد زاد دخل السكان السود فى عهدى بنسبة 220%..والفقراء أصبحوا يتسوقون من المراكز التجارية وهو ما لم يكن متاحا لهم من قبل)».
7- التوجه نحو التكتلات الاقتصادية على مستوى السياسات الاقتصادية الخارجية.. وذلك من خلال منظمة (الميروكسور) وهى بمثابة السوق المشتركة لدول الجنوب بين كل من البرازيل والأرجنتين وباراجواى واوروجواى فى 1991 وعضوية غير كاملة لفنزويلا وبوليفيا.. وهى تعد اليوم رابع اكبر قوة اقتصادية فى العالم، كما شكلت البرازيل مع روسيا والصين والهند مجموعة (البريكس (BRICS- فى 2009 ثم انضمت لهم جنوب أفريقيا فى 2010.. وهو تجمع لخمس دول تعد صاحبة اكبر اقتصاديات على مستوى الدول النامية، حيث يعادل الناتج الإجمالى المحلى لتلك الدول مجتمعة ناتج الولايات المتحدة…
وخلاصة القول فإن اتباع السياسات الاقتصادية والاجتماعية أدت إلى رفع مستوى دخل وبالتالى المستوى المعيشى للمواطن ولاسيما الطبقات الفقيرة مما أدى إلى خلق قاعدة عريضة للطلب، وخاصة أن البرازيل دولة كبيرة فى عدد السكان كان اغلبهم يعانى من الفقر الشديد ومع تحسين دخلهم أصبحت هذه الطبقات تمثل قوة شرائية كبيرة ساعدت فى ازدهار المشروعات الإنتاجية الوطنية ومثلت بديلا عن السوق الخارجي، وقد ظهر هذا بوضوح خلال فترة الأزمة العالمية فى 2008، حيث كانت البرازيل اقل دول العالم تأثرا بالأزمة… لقد حققت البرازيل نهضتها الاقتصادية وقامت بترجمة هذا النجاح الاقتصادى إلى مكاسب سياسية، حيث استخدم «لولا» ببراعة شديدة النجاحات الاقتصادية التى استطاع تحقيقها فى فترة رئاسته الأولى للحصول على مكاسب فى مسار السياسة الخارجية، ومن جهة أخرى وجه سياسته الخارجية النشيطة لتحقيق مكاسب اقتصادية جديدة وهكذا بالتوازي..
لقد مكث «لولا» فى الرئاسة ثمانى سنوات حقق خلالها لبلده معجزة اقتصادية ولم يتربح لنفسه ريالا واحدا على الإطلاق… امتلك عزيمة قوية للنجاح وكاريزما جعلت اوباما يقول عنه فى 2010 (انه السياسى الأكثر شعبية على وجه الأرض).. ورفض «لولا» تعديل الدستور لفترة رئاسية ثالثه رغم أن شعبيته بلغت 80% آنذاك بسبب انجازاته وودعه شعبه بالدموع عند ترك الرئاسة…
وما نبغى الا إصلاحا