محافظ البنك المركزى المصرى لديه الكثير من الأعباء، هو المسئول الأول عن صنع السياسة النقدية فى البلاد، وأحد المسئولين عن تنسيق تلك السياسة مع السياسيتين المالية والتجارية.
هو معنىّ بالمستوى العام للأسعار، وسعر الصرف،ورصيد الاحتياطى، وتطوير النظام المصرفى والرقابة عليه.. هى مهام كبيرة جداً وأعباء ثقال لكنه فى خضم كل ذلك مهموم جداً بأمر الخبراء! هو لا يحب خبراء الاقتصاد، ولا يفهم مصطلح «خبير اقتصادى» وفقاً لتصريحاته الأخيرة وربما وفق أحاديث أخرى سابقة! هو يقدّر فقط الرأى الصادر عن المصرفيين، وليس أى مصرفيين، فقط أصحاب المناصب منهم وتحديداً رؤساء البنوك!
لو أن محافظ البنك المركزى يتعامل بشكل فعّال مع منظومة العدالة وتحديداً المحاكم الاقتصادية التى تفصل -فيما تفصل- فى الدعاوى المصرفية، لعلم أن هناك «خبراء اقتصاديين» بوزارة العدل وخبراء جدول أقسموا اليمين كخبراء اقتصاديين لممارسة أعمال الخبرة فى الدعاوى المقامة أمام المحاكم الاقتصادية المصرية. ودولياً مهنة «الخبير الاقتصادى» مطلوبة فى كثير من مؤسسات التمويل الدولية والإقليمية وغيرها من هيئات ومؤسسات مهمة، ربما اختلف مسمّى الوظيفة حسب اللغة، وربما اقتربت الترجمة غير الحرفية لوظيفة Economist بمسمّى «الخبير الاقتصادى» أو الباحث أو المحلل الاقتصادى نظراً لعدم استساغة وشيوع استخدام الترجمة الحرفية للوظيفة، وهى «اقتصادى» فقط.
الخبير الاقتصادى قد يصدرأوراقاً ومقالات علمية فى تخصصه، أو ربما يمارس التدريس فى الجامعات والمعاهد، أو هو يمارس مهام الخبرة فى الدعاوى، وهو بمثابة القاضى الفنى عندئذ.. لكنه متهم عند محافظ المركزى فيما يبديه من رأى لأنه ليس رئيساً لبنك أو مؤسسة كبرى! هذا لعمرك فى القياس عجيب، والأعجب هو الخلط بين الخبرة المصرفية والخبرة الاقتصادية، وتقديم الأولى فى شأن تعارف العالم على كونه شأناً اقتصادياً بحتاً، فمحافظ الفيدرالى الأمريكى (حالياً سيدة) يأتى بخبرة الاقتصادى ذى الأبحاث والرؤى الاقتصادية، ومحافظ المركزى الإسرائيلى كان لوقت طويل الاقتصادى الشهير «ستانلى فيشر» الذى يشغل حالياً منصب نائب رئيس الفيدرالى الأمريكى.. والأمثلة كثيرة. الخبير الاقتصادى يبحث فى التوازنات الاقتصادية، يراعيها كما لا يفعل المصرفىّ المهتم أساساً بحسابات البنك وموازناته وحجم القروض والودائع والمخصصات.. إلخ.
السيد طارق عامر صيرفىّ وليس اقتصاديّاً، لكنه يجتمع فى مجلس إدارة البنك المركزى بعدد من الاقتصاديين. لجنة السياسة النقدية تعمل بشكل أفضل كلما كانت تدار بفكر اقتصادى، يعرف تأثير مستوى سعر الفائدة على مختلف مقوّمات وتوازنات الاقتصاد، يعرف التأثير على النمو والتضخم والتشغيل والاستثمار والاستهلاك.. يعرف أثر تحرير سعر الصرف على الأسواق ويقرأ ـ إن لم يكن يطوّر بنفسه-نماذج قياسية للتنبؤ بتقلبات العملة الوطنية، ودالة الاستجابة للصدمات فى أسعار تلك العملة مقابل العملات الأجنبية.. الاقتصادى الماهر لا يملك يقيناً، ولا يتحدث بصيغة تعكس ثقة مطلقة، بل لا يتحدث إلا نادراً إذا ما كان يشغل منصباً حسّاساً له تأثير مباشر على المتغيرات الاقتصادية.
الاقتصادى يعرف قيمة الإشارات الإيجابية والسلبية، فلا يطلق عبارات تحمل تفسيراً يؤدّى إلى تقلّبات الأسعار والأجور، ولا يطلق إشارة تعطّل آلية عمل السوق الحرة أو تمنح أفضلية لفئة دون سائر الأطراف الفاعلة فى الأسواق، ولا يطلق رأياً أو تنبؤات (حتى وإن استوثق منها) خشية أن تحقق النبوءة ذاتها، وهو أمر ليس محموداً بالضرورة. الاقتصادى ذى المنصب الحسّاس يحرص على ألاّ يفقد حياده، وألاّ يكون طرفاً فى نزاع، وأن يعمل كحكم المباراة الماهر الذى لا يشعر اللاعبون بوجوده لكنه يدير الملعب كله بكفاءة، دون إفراط فى إطلاق الصافرات، ولا تفريط فى استخدام كروت الإنذار. هو اقتصادى بمهارات سياسية وإدارية وإحصائية إن لزم الأمر، ولا عجب أن كلية الاقتصاد والعلوم السياسية تجمع فى تخصصاتها الرئيسة بين تلك المجالات.
كل ما سبق وغيره هو من متطلبات وخصائص الاقتصاديين الخبراء فى علمهم ومهنتهم، لا ينقص ذلك أبداً من أهمية وقيمة الصيارفة الذين يمتلكون من المهارات ما لا يملكه غيرهم، لكن اتصال تلك المهارات بالمتطلبات آنفة الذكر ضعيفة إلا فيما رحم ربى.
أتمنى ألا يلتفت محافظ المركزى إلى نبؤات الخبراء إلا مستفيداً، وأن «يقتصد» فى تصريحاته وظهوره الإعلامى قدر المستطاع.
د/مدحت نافع خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر