منذ أيام سألنى صحفى صديق عن رأيى فى مستقبل العملات الافتراضية الرقمية، والارتفاع الكبير لعملة «البيتكوين» (Bitcoin) والذى بلغ حينها 1268 دولارا أى أكثر من أوقية الذهب 500 جرام والتى كان سعرها 1233 دولارا. التحقيق الذى أعدّه الصديق كان متميزاً وشاملاً ولا يقل إطلاقاً بل يتفوق على كثير مما قرأت عن تلك العملات فى دوريات أمريكية وانجليزية. ربما كان لاضطراب سعر العملة المحلية فى اقتصادين من أكبر اقتصادات العالم وهما الصين والهند دخلاً فى تلك القفزات السعرية الكبيرة للعملة الافتراضية، إذ حلّت محل عملتى البلدين فى كثير من المعاملات عبر الإنترنت تحاشياً لتقلبات سعر صرف اليوان على خلفية تراجع حجم الصادرات الصينية، ولعملية الـ demonetization (أو سحب بعض فئات البنكنوت من الأسواق) التى شهدتها الهند مؤخراً.
العملة الأغلى سعراً فى العالم (بيتكوين) هى عملة رقمية افتراضية مشفّرة، ليس لها رقم مسلسل، يتم التعامل بها فقط عبر شبكة الإنترنت فقط، من دون وجود مادى فى الأسواق، وهى عملة ناشئة لم يمض على تداولها سوى نحو 8 سنوات، ومن المفترض أنها لا تخضع لسيطرة مؤسسة مالية بعينها، لكن واقع الحال لاحظ بعض المراقبين تركّزاً كبيراً فى ملكيتها مما يجعل أصحاب الأرصدة الأكبر من تلك العملة بمثابة صنّاع لسوقها وقادرين على التلاعب بأسعارها ارتفاعاً وانخفاضاً كيفما شاءوا.
وحدات عملة «البيتكوين» الافتراضية لا تتجاوز فى نظرى «فيش» القمار التى تصلح للتداول داخل الكازينو ولا قيمة لها خارجه. بل إن فيش القمار أكثر استقراراً لأن هناك ضامنا لها متمثلا فى إدارة الكازينو المسئول أمام القانون عن سداد القيمة المرادفة لكل فيشة عند رغبة العميل استرداد المقابل المالى لها. لكن فى حالة «البيتكوين» لا توجد بنوك مركزية تلعب دور مقرض الملاذ الأخير the lender of last resort وليس ثمة احتياطى ضامن لإصدارات الوحدات المصدرة من تلك العملة الرقمية سوى حجم التعاملات ذاته! وهى على أية حال مازالت تعاملات محدودة نسبياً، ومفضّلة بشكل كبير فى الأعمال الإجرامية وغير الشرعية، وعمليات غسل الأموال.
ارتفاع قيمة العملة لا يعنى بالضرورة تحسّن فرصها المستقبلية فى النمو والإحلال محل العملات التقليدية فى التداول وتخزين القيمة، لأنها تقوم على ما يعرف بالـ«بونزى سكيم» ponzi scheme بمعنى أن المتعاملين القدامى بوحدات البيتكوين يحصلون على إيرادات كبيرة من دخول متعاملين جدد، وهكذا فى شكل هرمى يسمح باستمرار بتضخّم محافظ أصحاب الأسبقية فى التعامل بتلك العملة. يعاب على «البيتكوين» أيضاً ويحد من فرص انتشارها الآلية التى يتم بها تفقّد المعاملات السابقة، فالاستهلاك الرقمى الكبير للتعاملات (المحدودة نسبياً) يجعل إجراء المعاملات باستخدام محفظة البيتكوين شديد البطء وغير عملى، ويساهمفى إحداث مزيد من التراجع فى عدد المعاملات، هذا بالإضافة إلى مخاطر ضياع الأموال نتيجة أعمال القرصنة الإلكترونية وسيطرة عدد محدود من المنقبين miners على أرصدة تلك العملة ومن ثم على تقلباتها والتى تعتبر شديدة للغاية. بل إن البعض يفقد كامل محفظته لأنه نسى كلمة السر الخاصة به، والبعض يفقدها بسبب خطأ غير مقصود، فتدابير إدارة المخاطر المصرفية الموجودة فى البنوك الكبرى عالمياً لا يوجد لها صنو فى تلك العملة ومحددات عملها.
ليس ثمة منتجات سلعية أو خدمية متداولة بالبيتكوين ولا يمكن شراؤها بعملات تقليدية أخرى، بل إن المتعاملين بالبيتكوين يسعّرون منتجاتهم بعملات أكثر استقراراً ورواجاً مثل الدولار، ثم يقومون بالسداد بالعملة الافتراضية والتى تتقلّب قيمتها بشدة وبسرعة بما يهدد أموالهم بالضياع (قفزت قيمة البيتكوين بنحو 125% خلالعام 2016).
بالتأكيد قدرة قواعد بيانات «البيتكوين» على تسجيل جميع التعاملات هو أمر محمود، لكنه يضع قيوداً على سرعة وسيولة التعاملات، وربما أمكن للنظام العالمى أن يتحوّل إلى صورة رقمية كاملة فى المستقبل القريب، لكن بالطبع عبر آلية مختلفة عن تلك المستخدمة فى «البيتكوين» التى تعمل بنظام أشبه بقاعدة الذهب لكنه أكثر تقلّباً بكل تأكيد، وربما نشأ بنك مركزى عالمى لضبط إصدار وإهلاك وحدات تلك العملة، واستخدم فى إدارتها أطر شاملة لإدارة المخاطر.
خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر