كثير من الاقتصاديين الذبن تعرّضوا لظاهرة التضخم وصفوه بأنه عدو الشعب الأول، وهو أيضاً عدو الاقتصاد الحر. اقتصاديو المدرسة النمساوية والذين اهتموا بالدورات الاقتصادية اعتبروا التضخم خطراً داهماً لا يقل عن خطر المد الشيوعى على حركة التاريخ.
التضخم يلتهم كل ثمار التنمية، وإن كان أثره على أسعار الفائدة وحدها هو تحويلها إلى فائدة حقيقية سالبة فأثره على مختلف المتغيرات هو خصم من قيمتها الحقيقية. فالأجر الحقيقى يتراجع عن الأجر الأسمى كلما ارتفعت معدلات التضخم، وأسعار الصرف الحقيقية تتراجع بذات الكيفية، والقوى الشرائية للمواطنين تتراجع بصورة مخيفة كلما كان التضخم منفلتاً وجامحاً.
أدوات السياسة النقدية للسيطرة على المستوى العام للأسعار محدودة ومعروفة، وأهمها أسعار الفائدة والتى هى أداة السلطة المعنية بالسياسة النقدية لخفض المعروض النقدى فى الأسواق برفع أسعار الفائدة، أو زيادة هذا المعروض بخفض أسعار الفائدة، ولا ينافس تلك الأداة سوى عمليات السوق المفتوحة التى يدخل فيها البنك مشترياً أو بائعاً لأوراق مالية ونقدية.
الرفع يعنى رفع كبير فى تكلفة الحكومة لخدمة الدين العام وزيادة تقديرات العجز الكلى للموازنة العامة للدولة، وكبح الاستثمارات العامة.
من ناحية أخرى تعمل زيادة أسعار الفائدة على تثبيط الاستثمار، لأنها من ناحية تقدم عائداً آمناً للمودع الذى يؤثر شهادات الادخار والودائع عن أى نشاط منتج يحمل مخاطرة كبيرة، لا تساوى عوائدها هذا العائد الكبير، ومن ناحية أخرى هى أسعار فائدة كبيرة يراها البعض مانعة من الاقتراض، وبدون خلق للائتمان تتراجع قدرة الاقتصاد على النمو والتشغيل بشكل كبير. بالتأكيد فوائد البنوك الجديدة منافسة لكل أنواع الاستثمار، ويبدو أثرها بشكل مباشر وسريع على استثمارات الحافظة المتمثّلة فى تعاملات البورصة.
فى مقابلة حديثة أجريت مع «هيون سونج شين» رئيس قسم البحوث ببنك التسويات الدولية BIS والذى يدعى أيضاً بنك البنوك المركزية، وهو المؤسسة الأهم التى تبنت كل مقررات بازل الشهيرة. تبيّن ان المؤسسة الدولية قد غيّرت من نظرتها إلى التضخم.
باختصار التضخم فى نظر BIS هو ظاهرة عالمية وليست محلية، والسياسة النقدية تملك القليل من التأثير على معدلات التضخم. والعولمة والتغيرات السكانية بات لها تأثيراً أكبر على تلك الظاهرة.
الفكرة التى مفادها أن السياسة النقدية تؤثّر على الطلب وعلى معدلات التضخم هى قصة قصيرة الأجل ولم تعد قادرة على فهم وتفسير السلوك الحديث للتضخم.
يرى «شين» أن البنوك المركزية باتت أضعف من أن تتمكن من السيطرة على معدلات التضخم فى بلادها لكن قدرتها عالية جداً على «تشويش» أسعار الفائدة وتقلّبها بصورة عنيفة لعقود طويلة فى المستقبل. يقول الخبير «إن البنوك المركزية لديها مشكلة كبرى كلما كان الهدف الأوحد هو التضخم «استهداف التضخم» لأنها تنتهى باضطراب الأسواق». وهو كذلك يعتقد أن السياسة النقدية هى أهم أسباب أزمات الصين.
التضخم فى مصر أسبابه حقيقية متصلة بتكاليف الاستيراد الإنتاج التى ارتفعت بصورة كبيرة كنتيجة مباشرة لتحرير سعر الصرف. المرض هو نقص الإنتاج والإنتاجية فضلاً عن انفلات الأسواق وفساد آليات التسعير، العرَض هو ارتفاع المستوى العام للأسعار. فى سبيل السيطرة على ذلك تقدّمت بكثير من المقترحات التى تتدخل فيها الحكومة لتشجيع الإنتاج وتسهيل منح التراخيص للمصانع وتشغيل تلك المتوقفة، وتفعيل دور جهازى حماية المستهلك وحماية المنافسة ومنع الاحتكار.. كذلك طالبت بسرعة إنشاء بورصة السلع والخدمات التى تجعل عملية التسعير معتمدة على معلومات شفافة للعرض والطلب وتحول دون الممارسات الاحتكارية التى تؤدى إلى تفاقم أزمة التضخم.
جانب كبير آخر من أسباب هذا التضخم الذى نشهده مرجعه زيادة المعروض النقدى الناتج عن طباعة البنكنوت بمستوياته القصوى، ورغم أنه عمل البنك المركزى إلا أن الحكومة لا تستطيع أن تطالبه بالحد منه لأنها تدفع بهذا البنكنوت التزاماتها، والنتيجة أن أوراقاً نقدية كثيرة تملأ الأسواق دون غطاء حقيقى ودون سلع وخدمات كافية فى تلك الأسواق، النتيجة المباشرة هى التضخم.
الخروج من الأزمة الراهنة يحتاج إلى تضافر جهود صانعى السياسات النقدية والمالية والتجارية، وربما استلزم ما طالبت به مراراً من تشكيل مجلس أعلى للسياسات الاقتصادية.
د/ مدحت نافع
نائب رئيس لجنة الاستدامة بالاتحاد العالمى للبورصات