
تابعت معظم ما تم نشره عن قرار لجنة السياسات النقدية بالبنك المركزى المصرى الخاص برفع اسعار الفائدة، والتعليقات الغاضبة التى تشير الى انصياع «المركزي» إلى تطبيق «روشتة» صندوق النقد الدولي، بالرغم من توقع النتائج السلبية على الاستثمار والأسعار ومستوى البطالة والبورصة والدين العام وغيرها. ثم شردت بذهنى الى هاجس طالما جال بخاطري. هل صندوق النقد الدولى حقاً يعمل على دعم الاقتصاد العالمى ويساعد الدول، ومنها مصر، على اصلاح بنيتها الاقتصادية، أم أنه آداة فى يد القوى العظمى للسيطرة على الدول. وبما أنى أؤمن بأن للحقيقة وجهين فسوف أعرض فى هذا المقال الوجه الأبيض والأسود لصندوق النقد الدولى وأترك للقارئ اختيار وصف الصندوق بعد استجلاء الحقيقة.
فلنبدأ بنبذة مختصرة عن صندوق النقد لدولي. فى عام 1944 بعد الحرب العالمية الثانية تم تنظيم مؤتمر فى الولايات المتحدة الأمريكية بحضور 44 دولة على رأسهم الولايات المتحدة وبريطانيا من أجل دراسة الوضع الاقتصادى بعد الحرب. نتج عن المؤتمر تأسيس ثلاث منظمات لتنظيم الوضع الاقتصادي وهى البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية.
بالرجوع الى التقرير السنوى لصندوق النقد الدولي، تشمل المقدمة لمحة عن الصندوق باعتباره المنظمة العالمية الأساسية التي يتم من خلالها التعاون النقدي على المستوى الدولي. ويضم الصندوق في عضويته 188 بلد اويتولى الإشراف على النظام النقدي الدولي لضمان فعالية عمله. ومن بين أغراضه الرئيسية تعزيز استقرار أسعار الصرف، وتيسير التوسع والنمو المتوازن في التجارة الدولية. ويناقش الصندوق آثار السياسات الاقتصادية لكل بلد، ويتخذ قرارات الإقراض من الصندوق لمساعدة البلدان الأعضاء على معالجة مشكلات مؤقتة في موازين مدفوعاتها ،وكذلك جهود بناء القدرات.
وتشمل الأدوار الرئيسية للصندوق: تقديم المشورة للبلدان الأعضاء حول اعتماد السياسات التي يمكن أن تساعدها على تحقيق الاستقرار الاقتصادي الكلي، ومن ثم تعجيل النمو الاقتصادي، وتخفيف حدة الفقر، وإتاحة التمويل بصفة مؤقتة للبلدان الأعضاء لمساعدتها في معالجة المشكلات المتعلقة بميزان المدفوعات -أي عندما لا تجد لديها ما يكفي من النقد الأجنبي بسبب تجاوز مدفوعاتها للبلدان الأخرى إيراداتها من النقد الأجنبي. كما يقوم الصندوق بتقديم المساعدة الفنية والتدريب للبلدان بناء على طلبها، لمساعدتها في بناء الخبرات والمؤسسات اللازمة لتنفيذ السياسات الاقتصادية السليمة.
أما على الجانب الآخر، فتدور الاتهامات بشكل واسع على أن تشكيل صندوق النقد الدولى كان وفقاً لرؤية أمريكية – بريطانية بدايةً، ثم تراجع نفوذ بريطانيا حتى وصل إلى شكله النهائى تحت السيطرة الأمريكية بوصفها القوى العظمى على مستوى العالم.
يقول جون بيركنز فى كتابه «اعترافات قاتل اقتصادي» – «تستغل الولايات المتحدة الموقف عبر أنصارها وحلفائها في البنك الدولي أو في صندوق النقد الدولي، الذين يفرضون الوصاية على الدول المقترضة، فارضين شروطهم في كل شيء من وضع أسس سياسة الإنفاق الحكومي إلى الاتفاقيات الأمنية».
تلخص مقولة جون بيركنز الوجه الآخر لصندوق النقد الدولى والدور الذى يلعبه فى خدمة مصالح الولايات المتحدة الأمريكية فى الهيمنة على النظام الاقتصادى العالمي، بل إنها تسعى للسيطرة على الدول نفسها لكى تكون تابعة لها.
منذ السبعينيات شجع صندوق النقد والبنك الدولي البنوك والمؤسسات المالية والنقدية الدولية، على تسهيل اقتراض البلدان النامية خارج منطقة أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية تحت ستار زيادة وارداتها وسد العجز فى موازين مدفوعاتها. وتمنح القروض بعد استيفاء «روشتة» ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.
أساس «الروشتة» يتلخص فى ثلاثة شروط وهى المساعدة المالية والمساعدة الفنية والمراقبة. ولمزيد من التفصيل، تحتوي «الروشتة» على وصفات مثل إقامة سوق تجارية للنقد الأجنبى وضمان عدم سيطرة الدولة على سعر الصرف، وٕالغاء القيود المفروضة على الواردات، وتشجيع الاستثمارات الأجنبية بإعفائها من الضرائب والرسوم الجمركية، وٕامدادها بالأراضى ومصادر الطاقة والمواد الخام بأسعار زهيدة، والسماح لها بتحويل أرباحها إلى الخارج وتصفية أعمالها متى تشاء. وإذا أذعن البلد المدين لهذه الشروط وحصل على القرض، يعتبر ذلك بمثابة شهادة حسن سير وسلوك تمكنه من أن يعاود الاقتراض من البنوك الدولية والمؤسسات المالية العالمية مرة أخرى. أما لضمان مراقبة تنفيذ «الروشتة» غالباً ما يكون للصندوق ممثل فى البلد المدين له مقر فى البنك المركزى أو وزارة الخزانة.
ربما تختلف شروط صندوق النقد الدولى من دولة إلى أخرى، ولكن القاسم المشترك لنتيجة تنفيذ هذه الشروط هو الصدمات القاسية التى تُنهك البلد المدين ويعانى منها قطاعات الأعمال والأسواق والموطن. فالصندوق يقدم «الروشتة» ولكن لا يضمن النتائج مثلما حدث فى عدة دول ومنها مصر بعد وصول التضخم الى مستوى فاق 31% على أساس سنوى مما نتج عنه انفلات مجنون فى الأسعار عصف بأحوال الطبقة الوسطى ومحدودى الدخل.
عانت دول عديدة، وخصوصا الدول النامية، من تضخم حجم الديون المستحقة عليها بصورة كبيرة حتى إن الفوائد بلغت فى بعض الحالات أكثر من نصف ما يجب سداده سنوياً. وعندما عجزت بعض الدول المدينة عن السداد، كما حدث فى مصر فى الثمانينيات، تولى صندوق النقد والبنك الدولى التوسط بين الدول المدينة والدائنين من أجل جدولة ديونها بحيث يتم توزيع أقساط الدين على عدد أكبر من السنوات مع تطبيق فوائد التأخير. فعندما يعجز البلد عن السداد عجزاً مطلقاً تتدخل المنظمات الدولية لتتولى هى بنفسها تنظيم ماليته وإصلاح نظامه الاقتصادي.
ربما يتذكر القارئ أزمة اليونان التى تجلت عام 2009 حين وصل الاقتصاد اليونانى الى حالة انهيار بسبب ما يعانيه من عجز دائم واقتراض خارجى وداخلي. فقد أدت اجراءات التقشف التى تبنتها اليونان بناء تنفيذ «روشتة» صندوق النقدؤوس أموال للخارج. والنتيجة أن «روشتة» صندوق النقد الدولى لإنقاذ اليونان أدت إلى تعميق الأزمة المالية والاقتصادية وتعقيدها،والى تدهور كبير للاقتصاد اليوناني. الدولى إلى انهيار العديد من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وارتفاع عدد العاطلين الى أكثر من مليون شخص وتدهور النمو الاقتصادى إلى الصفروتخفيض الاجور ورفع نسبة الضرائب. انعكس كل ذلك سلباً على مستوى المعيشة واصيب الاقتصاد بالركود وارتفع التضخم. كما ادت إجراءات التقشف إلى خروج العديد من الشركات الأجنبية واليونانية إلى دول مجاورة وهروب رؤوس أموال للخارج. والنتيجة أن «روشتة» صندوق النقد الدولى لإنقاذ اليونان أدت إلى تعميق الأزمة المالية والاقتصادية وتعقيدها،والى تدهور كبير للاقتصاد اليوناني.
أما تجربة تشيلى مع صندوق النقد الدولى فهى مثال آخر يوضح أن شروط قروض صندوق النقد الدولى تؤدى فى بعض الحالات الى نتائج كارثية. بينما كانت الولايات المتحدة تدعم الديكتاتور بينوشيه لتنفيذ انقلاب دموي، ساند صندوق النقد الدولى الديكتاتور التشيلى فى تنفيذ أقصى سياسة تقشف عرفتها أميركا اللاتينية. وعلى الرغم من انتهاك حقوق الإنسان، إلا أن صندوق النقد الدولى منح بسخاء قروضه لتشيلى بعد عام من انقلاب بينوشيه الدموي، وضاعف قيمة قروضه حتى وصلت خمسة أضعاف فى العامين التاليين. نتج عن تلك السياسات التقشفية زيادة الفقر، وارتفاع البطالة من 3% فى 1973 إلى 18.7% فى عام 1975، وارتفاع معدل التضخم الى 341%.
وبعد هذا العرض، كيف تنظرون إلى الصورة الحقيقية لصندوق النقد الدولي؟