العثور على عباقرة القرن الحالى يبدأ باختبارات الذكاء الأساسية
انتشار فكرة المدارس التخصصية بعد نجاحها فى سنغافورة وبريطانيا
%30 من خريجى برامج الموهوبين الأمريكية حصلوا على دكتوراه
الدعم الحكومى لبرامج التدريب يحد من إهدار مواهب بناء الأسر الفقيرة
%1 نسبة الحصول على الدكتوراه فى الولايات المتحدة
مناهج لتطوير إدراك الأطفال الأذكياء تعزز تفوقهم المستقبلى
كل عام فى سنغافورة يذهب %1 من التلاميذ فى السنة الثالثة من المدرسة الابتدائية للبيت بمظروف مكتوب عليه على نفقة الحكومة وفى داخله دعوة لحضور برنامج تعليمى للموهوبين ترعاها حكومة الولاية الخاضعة لها المدرسة، ويلزم حضور البرنامج اجتياز التلاميذ لاختبار قدارت فى الرياضيات واللغة الإنجليزية والقدرة العامة وإذا وافق والديهم يتم تدريس منهج خاص لأولادهم.
يمثل نهج سنغافورة رمزاً للشكل التقليدى لتعليم الموهوبين والذى يستخدم اختبارات الذكاء بمعايير صارمة لتحديد الأطفال الذين يتمتعون بقدرة فطرية على ما يبدو، ومع ذلك يجرى إصلاح هذا الأسلوب فى العديد من البلدان بطريقتين رئيسيتين.
الطريقة الأولى هى أن التربويين يستخدمون مجموعة واسعة من الأساليب لتحديد الأطفال ذوى الذكاء العالى، خاصة الأطفال من الأسر الفقيرة والثانية هى التركيز المتزايد على تعزيز المواقف وخصائص الشخصية الموجودة فى الأشخاص الناجحين فى مجموعة من التخصصات بما فى ذلك أولئك الذين لم يخوضوا اختبارات الذكاء.
وبدأت هذه الإصلاحات مع ظهور أبحاث جديدة توضح أسباب عدم حصول بعض البلدان على أفضل النتائج رغم توفير أفضل ظروف وأعلى تكاليف اقتصادية.
وقال تقرير لمجلة الإيكونوميست البريطانية، إن هذا البحث يشير إلى أن الجدل حول تأثير الطبيعة أو التنشئة مجرد خلاف كاذب فالذكاء مرتبط تماماً بالوراثة وربما هو أفضل مؤشر للنجاح، لكن لا يمكن اعتباره الميزة الوحيدة التى تعطى مؤشر على أهمية الشخص فى المستقبل.
تعود دراسة الأطفال الموهوبين إلى قرن على الأقل ففى عام 1916 بدأت ليتا هولينجوورث وهى عالمة نفس دحض فكرة أن النساء يعانين فى دراسة العلوم بسبب اضطراب الدورة الشهرية من خلال دراسة مبكرة للأطفال ذوى الذكاء العالى، وبعد عقدين من الزمان بدأت العمل فى مدرسة شباير فى مدينة نيويورك، وهى واحدة من أوائل المدارس التى لديها مناهج صعبة لهؤلاء التلاميذ.
ونالت الانتقادات الحادة من اختبارات الذكاء ويرى بعض المشككين ومنهم الصحفى كريستوفر هيتشنز أن هناك علاقة قوية وراسخة بين غباء شخص معين وميله إلى الأعجاب بمقياس معدل الذكاء.
ويعتقد هيتشنز أن اختبار الذكاء كأى تقييم آخر ليس مثالياً ولكن يشير ستيوارت ريتشى الاستاذ فى جامعة أدنبرة إلى أن الذكاء وفقاً للباحثين فى العلوم المعرفية لا يمكن اكتسابه بالتعلم بل هو القدرة على التصرف بمنطق ووضع خطة وحل مشكلة، والتفكير المجرد وهى سمات يمكن التعرف عليها وقياسها عن طريق اختبارات الذكاء.
واهتمت ابحاث كثيرة بمدى أهمية الذكاء الفطرى ومنها دراسة رياضية للنضوج المبكر للشباب فى عام 1971 أجرتها جوليان ستانلى استاذة علم النفس فى جامعة جونز هوبكنز، حيث قضت أكثر من 25 سنة تدرس 5000 طفل فى مراحلهم العمرية المبكرة، يتميز جميعهم بتسجيل معدلات مرتفعة فى اختبارات الذكاء، فى مرحلة المراهقة المبكرة بما يكفى للدخول إلى الجامعة.
وسجلت الدراسة أداء هؤلاء الأطفال فى مرحلة البلوغ خلال العقدين الماضيين وكانت النتيجة أن المشاركين الذين حققوا معدلات أعلى بنحو %0.5 بالمقارنة بنفس مجموعتهم العمرية فى الرياضيات والاختبارات اللغوية ذهب %30 منهم للحصول على الدكتوراه فى حين أن المعدل العام للحصول على الدكتوراه فى الولايات المتحدة %1 فقط، كما كان هؤلاء الأطفال أكثر قدرة على تحقيق مستويات دخل عالية ومنهم من حصل على براءات اختراع فى تخصصه.
وهناك اختلاف حتى بين أصحاب أفضل المعدلات وهو يثير الشكوك حول وجهة نظر التى تقول أن هناك سقفاً لمعدل الذكاء وبعد ذلك يتضاءل تأثيره فمن بين أعلى %0.01 طفل ذهب %50 للحصول على درجة الدكتوراه أو شهادة فى الطب أو القانون.
وتقوض النتائج التى توصلت إليها الدراسات التى يقودها إيان ديرى من جامعة أدنبرة فكرة أن الأطفال الموهوبين يستمرون فى التفوق حتى يصلوا لمرحلة من الاضطراب بشكل غير متناسب، وبالطبع استثناءات ولكن فى المتوسط يرتبط ارتفاع معدل الذكاء عند الطفل بالصحة الجسدية والعقلية أفضل كشخص بالغ، فتخطى سنة دراسية يؤدى إلى ضرر بسيط وقد ظهر ان اطفال دراسة النضوج المبكر الذين تخطوا سنة دراسية واحدة على الأقل كانوا أكثر احتمالاً بنسبة %60 فى الحصول على براءات الاختراع أكثر من أولئك الذين لم يفعلوا ذلك.
غالباً ما يستشهد المسئولون بنتائج هذه الدراسة كمصدر إلهام لإنشاء مدرستين متخصصتين فى الرياضيات فى إنجلترا فى عام 2014 على غرار مدرسة كولمو جوروف فى موسكو وهذه المدارس تقبل فقط أولئك التلاميذ الذين يتفوقون فى امتحان الرياضيات فى سن 16 عاماً.
وفى يناير الماضى قالت الحكومة إنها تريد فتح عدد أكبر من هذه المدارس كجزء من «استراتيجية صناعية» ترمى لزيادة الإنتاجية فى بريطانيا، لكن بالنسبة للبعض يعد ربط تعليم الموهوبين بالنمو الاقتصادى أمر مروع، ولكن يبدو منذ وقت طويل أنها نظرية سليمة خاصة فى البلدان التى لا تملك الكثير من الموارد الطبيعية مثل سنغافورة.
فى زاوية أخرى من الموضوع يتعرض تقرير مجلة الإيكونوميست البريطانية الى إمكانات الأطفال الفقراء الرائعة والتى غالباً ما تضيع، ففى شهر ديسمبر 2017 نشر راج شيتى من جامعة ستانفورد وزملاؤه ورقة بحثية بعنوان «أينشتاين المفقود» وجدت أن %5 من أفضل الأطفال من حيث معدلات الأداء فى الاختبارات المعيارية فى السنة الثالثة من المرحلة الابتدائية يكونون أكثر احتمالاً للحصول على على براءات اختراع عند تخرجهم بالمقارنة مع %95 المتبقين، لكن نسبة هذا الاحتمال لاتزال أكبر بكثير بين الأطفال الأذكياء من العائلات الغنية.
ووجد فيليب أجيون الاستاذ فى كلية لندن للاقتصاد وزملاؤه نتائج مشابهة فى فنلندا فأولئك الذين يتمتعون بارتفاع معدل الذكاء ولكن من خلفيات فقيرة كانوا معرضين بشكل خاص لخطر عدم تحقيق أفضل استفادة لإمكاناتهم هذا ليس فقط غير عادل، لكنه يعنى أيضاً أن الكثير من المواهب يجرى هدرها، والتى كان يمكن تسخيرها لخدمة العالم.
هناك العديد من الأسباب التى تجعل الأطفال الأذكياء من أبناء الطبقة الفقيرة يعانون حيث لا يجدون فى كثير من الأحيان من يمد لهم يد العون خاصة عندما تكون التطبيقات طوعية فإنها تذهب فى الغالب لأبناء الأسر الغنية أو من لديهم طفل واحد.
على سبيل المثال، فى مدينة نيويورك غالباً ما تتقاضى الشركات التعليمية 200 دولار فى الساعة لمساعدة الأطفال فى سن أربع سنوات فى التحضير لاختبارات القبول فى برامج التعليم الموهوب التى تبدأ فى رياض الأطفال.
قد تؤدى الدروس الخصوصية مؤقتاً إلى الحصول على مزيد من الدرجات، لكنها تحدث الفارق ففى عام 2015، كان %70 من التلاميذ المقبولين فى مثل هذه البرامج بيض أو آسيويين على الرغم من أنهم يمثلون %30 فقط من السكان فى سن الدراسة.
وتساعد هذه البرامج فى اجتياز الاطفال لاختبار المدارس بدلاً من الاعتماد على الآباء والأمهات وبحسب ورقة بحثية فى عام 2015 وجد الاقتصاديان ديفيد كارد ولورا جوليانو، أنه عندما أدخلت إحدى المناطق التعليمية فى فلوريدا نظام الفحص الشامل (قياس استجابة الطفل العلمية والسلوكية بجانب اختبار الذكاء ) لنظام تعليم الموهوبين ارتفعت نسبة القبول بنسبة %180 بين الأطفال الفقراء، و%130 بين ذوى الأصول الأسبانية و%80 للتلاميذ السود وانخفض القبول بين الأطفال البيض.
بعض البرامج تذهب أبعد من ذلك ففى منطقة ميامى – دايد رابع أكبر منطقة تعليمية فى أمريكا حيث استخدمت نظام الفحص الشامل جرى قبول أطفال بمعدلات ذكاء أقل من الأسر الفقيرة أو أولئك الذين تعتبر اللغة الإنجليزية لغتهم الثانية طالما أنهم يظهرون علامات أخرى واعدة مثل تعلم اللغة الإنجليزية بسرعة أو حصلول على درجات عالية فى اختبارات أخرى، ويوجد فى ميامى – دايد %6.9 من التلاميذ السود فى برنامج الموهوبين مقابل %2.4 و%3.6 فى فلوريدا وعلى الصعيد الوطنى على التوالى.
وتمتلك 48 ولاية أمريكية من أصل 50 ولاية برامج للأطفال النوابغ، ولكن فى العقد الذى سبق عام 2013 جرى أعادة تعريف لنحو 24 منها وعادة ما يتخلصون من تسمية «الموهوبين» لصالح «أصحاب القدرة العالية»، واليوم لا تعتمد أى ولاية على درجة الذكاء فقط لاختيار الطلاب، وفى كتابه «غير الموهوبين»، يرى سكوت بارى كوفمان من جامعة بنسلفانيا أن هذا التغيير هائل بالمقارنة بـ20 عاماً مضت وقد شهدت الدول الأوروبية تحولات مماثلة.
تختبر المناطق التعليمية أيضاً سمات أخرى، بما فى ذلك القدرة الإدراكية (أى القدرة على توليد صور بصرية ومعالجتها وتخزينها). ويشير جوناثان واى وهو عالم نفس إلى أن القدرة الإدراكية للطفل ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالإنجازات فى مجال العلوم والتكنولوجيا فى مستقبله، كما تؤكد ذلك الدراسة الفنلندية، لكنه أقل ارتباطاً بمستوى الدخل لأسرة الطفل من الدرجات اللغوية والرياضية، لذا، فإن اختبارها يمنح الأطفال الفقراء الموهوبين فرصة أفضل للتألق.
غير أن باحثين آخرين يشعرون بالقلق من أنه بغض النظر عن مدى كفاءة عملية الاختيار، فإن الاعتماد على مقاييس الذكاء فقط سيفشل فى العثور على الأطفال الذين لديهم القدرة على التفوق فى الحياة. ويرى علماء النفس مثل كاوفمان بأن هناك العديد من الطرق الممكنة لتحقيق لنجاح فى مرحلة البلوغ أكثر، مما يفترض فى كثير من الأحيان وأن التعليم يجب أن يفعل المزيد لتعزيز السمات والقدرات الخاصة للفرد مثل العاطفة والعزيمة والإبداع.
ويؤكد العلماء أن الجهد والمثابرة يضاعفان من الأداء، مما يجعل العمل على تطوير القدرات أكثر أهمية من الذكاء، وتقول أنجيلا دوكورث الاستاذة فى جامعة بنسلفانيا فى عام 2016 أنه بقدر ما تهم الموهبة، فإن الجهد اكثر اهمية بمرتين، وبالنسبة إلى أندرس إريكسون الاستاذ فى جامعة ولاية فلوريدا فإن التدريب لفترة طويلة (يُفهم على نطاق واسع على أنه 10 آلاف ساعة) أمر بالغ الأهمية لتحقيق النجاح.
ويختلف قلة من الباحثين مع الفكرة القائلة بأن الموهبة تتطلب التنمية وينبغى أن ينطوى ذلك على تشجيع العمل الشاق وكذلك أخذ مستوى الذكاء فى الحسبان ولذلك أنشئت برامج الموهوبين لمدارس الرياضيات المتخصصة من سنغافورة إلى المملكة المتحدة ضمن أولويات مساعدة الأطفال فى متابعة شغفهم.
وهناك أدلة على أن جوانب تعليم الموهوبين يجب أن تؤثر على التعليم بشكل أوسع مثل برايت ايديا الذى تم تطويره فى جامعة دوك حيث جرى تعليم 10 آلاف تلميذ فى مرحلة الحضانة والمدارس الابتدائية باستخدام أساليب غالباً ما يتم تخصيصها للأطفال الأكثر ذكاء وذلك من خلال تعزيز التوقعات العالية وحل المشكلات المعقدة وزرع المعرفة الفوقية (يقصد بها اكتساب طريقة منهجية للتفكير) وبالفعل ذهب تقريباً كل واحد إلى تقديم عمل أفضل بكثير فى الاختبارات بالمقارنة بنظرائهم المماثلين فى مدارس أخرى.
بعض الباحثين يذهب أبعد من ذلك حيث تؤكد كارول دويك الاستاذة فى جامعة ستانفورد على اهمية «عقلية» الأطفال (المعتقدات التى لديهم حول التعلم)، حيث ترى أن الأطفال الذين يعتقدون أن بإمكانهم تغيير ذكائهم لديهم «عقلية قابلة للنمو» أما أولئك الذين يعتقدون أنهم لا يستطيعون فعل الكثير لتغيير درجاتهم لديهم عقلية صعبة النمو ويظهر ذلك بوضوح فى نتائج إجراء الاختبارات.
ويجرى حالياً تطبيق طرق التدريس التى تعتمد على أسلوب دويك فى المدارس فى جميع أنحاء بريطانيا وأمريكا، كما يقوم البنك الدولى بإجراء تجارب على هذا النهج فى بلدان مثل بيرو.
ومع ذلك، يشير التحليل البعدى الحديث إلى أن هذ التدخلات القائمة على مفهوم العقلية القابلة للنمو أقل فاعلية مما يعتقد، خاصة أن التاثير على نتائج الطلاب المعيارية كان محدوداً وفى أفضل الأحوال كان لها تأثير ضئيل على الطلاب الفقراء.
وفكرة أن الذكاء أمر قابل للمعالجة تخضع لكثير من البحوث وتشير الدراسات التى قادها روبرت بلومان الاستاذ فى كلية كينجز فى لندن إلى أن حوالى %50 من التباين فى درجات معدل الذكاء يرجع إلى الاختلافات الجينية، لكن هذه النتائج لا تستبعد دور التنشئة فالعمل الجاد والخلفية الاجتماعية لهما تأثير لكنهما يقوضون الفكرة القائلة بأن معدلات الذكاء العليا يمكن ببساطة تخليقها.
وفى النهاية، فإن المطلوب من المؤسسات التعليمية تبنى نهج أوسع لتعليم الموهوبين يضمن أن المزيد من الأطفال يحققون أفضل استفادة من إمكاناتهم، لكن يبقى أفضل مقياس للتوصل إلى المواهب الواعدة هى اختبارات الذكاء وللعثور على أينشتاين المفقود يجب البحث عنه.