قطاع الصحة فى مصر يعانى من عدة أمراض مسرطنة تتمثل فى رداءة الخدمات الطبية المقدمة، نقص الآسرة والآلات الطبية فى المستشفيات الحكومية، ندرة الإمكانيات وسوء الإدارة، نقص الأدوية واختفاء مهنة الصيدلة، وكذلك نقص أعداد الطواقم الطبية، ولكن يظل انخفاض المستوى التعليمى لطواقم التمريض والأطباء أحياناً، وانعدام الاستثمار فى البحوث الطبية إحدى أكبر النقاط السوداء فى الثوب الأبيض لهذا القطاع الهام.
مما لا شك فيه أن ضعف الموازنات المخصصة لهذا القطاع ضمن ميزانية الدولة على مدار عقود طويلة ساهم وبشكل مباشر فى تفاقم المشكلة وتعقدها ووصولها إلى مرحلة مستعصية، تسببت بصورة مباشرة فى تقييد جهود التنمية الاقتصادية فى مصر، فضعف قطاع الصحة بصفة عامة يؤثر على صحة المواطنين، وعلى الخدمات المقدمة لهم، مما يؤثر على مستوى أدائهم وعلى قدراتهم فى العمل والإنتاج، وفى كثير من الأحيان رداءة وسوء الخدمات الصحية المقدمة يشعر المواطن بأنه ليس عنصراً هاماً فى هذا المجتمع ومصنف «مواطن من الدرجة الثانية» للأسف سوء الخدمة الصحية خنجر مسموم فى ظهر الوطنية لا يمكن التغلب عليه بنشيد وطنى أو أغنية حماسية.
وإذا كان ضعف الموازنة أحد أسباب تعثر قطاع الصحة إلا أن أولويات الانفاق ضمن موازنة هذا القطاع تعد هى الأخرى كارثة بكل المقاييس، وتعمق من مشاكل هذا القطاع، فنجد أن 50% من مخصصات وزارة الصحة تصب فى خانة الأجور وتعويضات العاملين، وهى فى ازدياد بينما مخصصات دعم الدواء والتأمين الصحى والبحث العلمى تنحصر وتنخفض عام تلو العام.
الحلول المتبعة حالياً لحل أزمة قطاع الصحة فى مصر سواء من خلال إنشاء خدمات ومستشفيات صحية قائمة على جمع التبرعات من داخل وخارج البلاد يعد حلاً مؤقتاً ومسكناً ولا يضمن استمرارية تقديم الخدمة الصحية بنفس الجودة أو حتى تطويرها.
القضاء على الأمراض المستوطنة عملية مستمرة لن تتوقف بمجرد اختفاء أحد الأمراض أو القضاء عليه من خلال أحد الحلول الوقتية.
أيضاً التركيز على زيادة المرتبات والفوائد المادية للعاملين فى قطاع الصحة لن يجدى فى ظل تضخم حجم العاملين غير المتخصصين داخل هذا القطاع دون وجود استفادة حقيقة منهم للتأثير على نهضة هذا القطاع على المدى الطويل بل هم عبء متزايد يجب إعادة توظيفه مرة أخرى.
وفقاً لتقرير قطاع الرعاية الصحية فى مصر لعام 2017 فإن نسبة عدد الأطباء لكل 1000 نسمة يقارب النسب العالمية فى الدول المتقدمة، إلا أن مصر تعانى من أزمة خطيرة فى مهنة التمريض، والتى تعد عصب الرعاية الصحية السليمة فى أى دولة، فالنسبة فى مصر 3 لكل 1000 نسمة بينما النسب العالمية تتحدث عن 11 و12 لكل 1000 نسمة، هذا إذا اعتبرنا أن النسب الموجودة فى مصر حقيقية، وعلى قدر مسئولية المهنة، فمهنة التمريض هى التى تلازم المريض وتقدم له الخدمة المباشرة بينما الطبيب دائماً فى المقاعد الخلفية للتوجيه وتحديد أساليب العلاج وليس العكس كما هو متبع فى مصر.
على المستوى الشخصى لدى تجارب مع قطاع الصحة فى مصر وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، خلاصة هذه التجارب تؤكد بما لا يدع مجال للشك أن صحة المواطن الموجود على الأراضى الأوروبية أو الأمريكية، تقع فى أولى أولويات الحكومات الأجنبية دون النظر إلى ماهية أو جنسية الشخص المقدم له الخدمة الصحية فهو فى النهاية إنسان له الحق فى الحصول على العلاج والحياة، وأن مهنة التمريض هى أساس نجاح قطاع الصحة.
تنظيم قطاع الصحة فى مصر يحتاج إلى خطوات جادة تبدأ من ضرورة وجود سجل مرضى لكل مواطن مصرى يتم التعامل معه بصورة مركزية من خلال المستشفيات والعيادات الخاصة والصيدليات على حد سواء، يجب أن تعود مهنة الصيدلة مرة أخرى إلى سابق عهدها بدلاً من تحويل خريجى كلية الصيدلة إلى مجرد بائعين دواء داخل صيدليات بدرجة دكتور، فالصيدلى مسئول عن تركيب الدواء وتجهيزه، وليس بيع علب أدوية من على الأرفف.
يجب أن تركز الدولة على مهنة التمريض ومستوى تعليمه من خلال إنشاء كليات متخصصة أو معاهد تعليمية لإعادة تأهيل الأطقم الطبية المعاونة، والتخلص من فكر الاعتماد على الطبيب فقط كعامل نجاح أوحد فى منظومة الرعاية الصحية، ترسيخ مبدأ العدالة فى تقديم الخدمة الطبية والتوقف عن التوسع فى نشر مفهوم المستشفيات الاستثمارية التى تقدم الخدمة لمن يدفع أكثر، أنا لست ضد زيادة الاستثمار الخاص فى هذا القطاع ولكن زيادة الاعتماد عليه يؤثر بالسلب على جودة الخدمة المقدمة والتعامل معها كمشروع ربحى بحت، إعادة تسعير مقابل التأمين الصحى الفردى المدفوع لشركات التأمين بما يتناسب مع دخل كل مواطن.
تنظيم القطاع الصحى سوف يسمح للدولة بتوسيع الوعاء الضريبى، وتحصيل المستحقات الضريبية الحقيقية على الدخل الحقيقى للأطباء والصيادلة وشركات الدواء وكل المنتسبين لهذا القطاع، ربط الصيدلية بالمستشفى والعيادة وروشتة الطبيب سوف يقضى على تهريب الدواء ونقصه فى الأسواق. تنظيم القطاع سوف يسمح بتحقيق فوائض من الممكن إعادة استثمارها فى البحوث العلمية الطبية، كل ما سبق يحتاج فقط إلى إصدار قرارات إدارية وتنظيمية، ولا يحتاج إلى قوانين وتشريعات تأخذ سنوات فى مناقشات غير جادة، تنظيم قطاع الصحة فى مصر يجب أن يأتى على أولى أولويات برنامج الحكومة المصرية لدعم التنمية الاقتصادية فعدم الاكتراث لهذا القطاع يكلف الدولة أعباء اقتصادية مستقبلية من المؤكد أنها سوف تعيق مسار أى خطط للتنمية الاقتصادية.