
بقلم: ريتشارد بانكس
مستشار تحرير مؤتمرات يورومني
إنّ الموضوع الرئيسى لمؤتمر يورومنى مصر هذا العام هو: المرونة والسرعة، وقبل انطلاق المؤتمر على مدار يومى 4 و5 سبتمبر 2018 فى فندق ريتز كارلتون بوسط القاهرة، كان لابد أن نوضح ما الذى نعنيه بهذين المصطلحين، ولماذا نؤمن بأنهما المصطلحان الأكثر ملاءمة وتوافقاً مع الوضع المصرى حالياً. ففى المقال الثانى سنلقى الضوء على مصطلح السرعة، أما فى هذا المقال فسنركز على مصطلح المرونة. لقد وضع البنك الدولى تعريفاً لمصطلح المرونة الاقتصادية بأنها قدرة الاقتصاد الوطنى على مقاومة الصدمات الاقتصادية والتعافى بسرعة عند تعرضه لتأثيرات هذه الصدمات.
لقد عانت مصر من صدمات خارجية وداخلية عنيفة أكثر من أى دولة أخرى، حيث كان لهذه الصدمات تأثيرات هائلة على الأوضاع الاقتصادية فى البلاد. وكان من أحدث وأبرز هذه الصدمات بطبيعة الحال ارتفاع أسعار البترول عالمياً فى الفترة من 2009 حتى 2011، ونشوب ثورتين فى عامى 2011 و2013. هذه الأحداث العالمية والمحلية أثرت بشكل كبير على الاقتصاد القومى فى مصر لأسباب عديدة، ولكن كانت تأثيراتها متشابهة لحد كبير. ولكن الآن، وفى عام 2018 بالتحديد، شهدنا نوعاً من الاستقرار مؤخراً على مستوى مكونات الاقتصاد الكلى (على الرغم من اتخاذ الدولة للعديد من الخطوات الايجابية خلال السنوات الأخيرة)، كما شهد الاقتصاد المصرى نمواً ملحوظاً فى معدل العائد (أكثر من 5%). إلا مازال هناك عددٌ من التحديات الهيكلية التى يعانى منها الاقتصاد المصرى (مثل الاعتماد على المنتجات الغذائية المستوردة) والتى ستستمر خلال الفترة القادمة، وهو ما يعنى ضعف قدرة الاقتصاد المحلى على التعامل مع الأحداث والتطورات الخارجية المفاجئة. ولهذا السبب بالتحديد علينا إدراك أهمية مفهوم المرونة على مستوى الاقتصاد الكلي.
وبشكل عام، كانت الاقتصاديات أو القطاعات الاقتصادية الأكثر قرباً من التأثيرات الخارجية هى الأقل تأثراً عند حدوث الصدمات العالمية. وقد كان هذا هو وضع مصر إلى حد ما عند حدوث الأزمة المالية العالمية عام 2008. فنظراً للتعليمات الصارمة المتعلقة بالأصول الدولية التى يمكن للبنوك المصرية امتلاكها، لم تشهد مصر أزمة مالية عام 2008، نظراً لمحدودية «عوامل نقل وانتشار العدوى المالية العالمية» للداخل المصري، صحيح أنّ مصر عانت تباطؤاً على مستوى الاقتصاد الكلى نتيجة التباطؤ الاقتصادى الذى عانت منه الدول المتقدمة، ولكن لم تعان البلاد من أزمة مالية شاملة بنفس الشكل الذى حدث فى دول أخرى بالمنطقة. ويعود الفضل الرئيسى فى ذلك للبنك المركزى المصرى الذى وضع استقرار القطاع المالى فى مقدمة أولوياته قبل حدوث الأزمة وتفشيها عالمياً.
وبالتالى يمكن توليد المرونة الاقتصادية فى مواجهة الصدمات الدولية من خلال تحجيم تعرض القطاعات الاقتصادية للمنافسة الدولية، عن طريق وضع متطلبات تشريعية صارمة تلتزم الشركات والمؤسسات المالية بتطبيقها بحيث ينتج عنها تباطؤ فى سرعة التغيير وحماية قطاعات السوق المحلي. ولكن هذا النوع من المرونة يصاحبه أيضاً شكلٌ من أشكال التباطؤ فى النمو الاقتصادى وهو ما يعنى تقلص نسبى فى مستويات المعيشة وتضاؤل فى الفرص الاقتصادية المتاحة أمام المواطنين، ولكنه مع ذلك يحمى شاغلى المناصب غير الأكفاء من المنافسين الأكثر كفاءة وقدرة.
أما الجانب السيء لهذا النوع من المرونة الانعزالية فيتمثل فى حدوث تراجع طويل الأجل فى معدلات النمو الاقتصادى وكذلك قدرة الاقتصاد المحلى على التعافى بسرعة من أى صدمة. وكما أشرنا من قبل فإنّ الصدمات ليست بالضرورة صدمات خارجية دائماً، بل يمكن أن تكون داخلية أيضاً كما حدث عام 2011. فبينما أثبت الاقتصاد المصرى مرونته أمام الأزمة المالية العالمية عام 2008، إلا أنه لم يتمكن من ذلك خلال ثورة يناير 2011.
وعند المقارنة بين أداء الاقتصاد الأمريكى بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008 وأداء الاقتصاد المصرى بعد ثورة يناير 2011، نجد أنّ الاقتصاد الأمريكى عانى من تراجع كبير وآثار اقتصادية مؤلمة، مما تسبب فى حدوث عجز هائل فى الموازنة الفيدرالية وارتفاع نسب البطالة إلى ذروتها بما يقارب 10%. وفى مصر، تسببت ثورة 2011 فى آثار مماثلة على الاقتصاد المصري، ولكنها تطلبت وقتاً أطول للتعافي. إنّ نفس العوامل التى ساهمت فى حماية مصر من آثار الأزمة المالية العالمية عام 2008 (التشريعات والحمائية والجمود) كانت هى نفس العوامل التى أعاقت تعافى البلاد بسرعة من الأزمات التى ألمت بها عقب الصدمة الاقتصادية الداخلية بعد ثورة 2011.
وعلى الرغم من ذلك، فإنّ نموذج الاقتصاد الأمريكى الحر بكل ما يحتويه من مبادئ التدمير الإبداعى مع وجود أدنى مستوى من الضمان والأمن الاجتماعي، لا يناسب مصر. ولهذا فإنّ التحدى الذى يواجه صانعى القرار فى مصر يتمثل فى ضرورة ايجاد التوازن المثالى بين المرونة الاقتصادية من خلال حماية المواطنين من آثار الاصلاح الاقتصادي، والمرونة الاقتصادية من خلال زيادة سرعة التعافى الاقتصادي.
وكما نعلم جميعاً فإنّ هذه المهمة ليست سهلة على الإطلاق. إنه التحدى الأكبر الذى ركزت عليه أفضل العقليات المصرية على مدار السنوات الخمس الماضية، حيث تمكنت حتى الآن من تحقيق نجاحات متميزة فى هذا الاتجاه. ولكن هناك عنصراً آخر يمكنه تقديم رؤية جديدة تتيح لقادة القطاعين العام والخاص المزيد من القدرة على التعامل مع هذا التحدى من زاوية مختلفة. هذا العنصر هو السرعة، وهو ما سنقوم بتغطيته فى مقالنا القادم.
*كاتب المقال هو مستشار تحرير مؤتمرات يورومني، والآراء التى يتضمنها المقال تعبر عن رأيه الشخصي.