استيقظت، مثل كثيرين آخرين، على عناوين الأخبار المدوية، حول انهيار الليرة التركية، وتداعيات ذلك على الاقتصاد التركى، وأيقنت أن وسائل الإعلام قد خدعتنا بشأن قوة الاقتصاد التركى. ليس هذا فقط، بل إنَّ الأبواق المحسوبة على بعض الأنظمة قد سخرت ماكينة الإعلام الجهنمية وأذرعها فى شبكات التواصل الاجتماعى من أجل تصدير صورة النظام القائم فى تركيا كأفضل الأنظمة قوة فى المنطقة من الناحية العسكرية والسياسية والاقتصادية، ولطالما قارنوه بنظيره فى مصر وبعض الدول العربية.
وأخيراً انكشف المستور عن المغالطات الفجة حول خرافة الاقتصاد التركى ومتانته.
أريد هنا فى هذا المقال أن أرسى حقيقة الإخفاقات الأخيرة فى الاقتصاد التركى. بالطبع، سأقتصر على تناول الأمور الاقتصادية الرئيسية؛ بسبب ضيق المساحة، مع تأكيدى التام على احترامى وتقديرى للعلاقة التاريخية الوثيقة التى تربط الشعبين المصرى والتركى. فى نظرة سريعة عن خلفية الاقتصاد التركى، يعتمد الاقتصاد إلى حد كبير على مبادئ السوق الحرة، ويغلب عليه على نحو متزايد رواج القطاعات الخدمية على الرغم من وجود قطاعات أخرى مهمة مثل الزراعة وصناعة السيارات والملابس والبتروكيماويات.
ومع ذلك، فإنَّ الفترة الأخيرة من عدم الاستقرار السياسى قد أفسحت المجال لتنامى الضبابية، والمخاوف الأمنية على الصعيد المحلى، والتى كان من شأنها أن تسهم فى تقلبات فى الأسواق المالية، وتؤثر على التوقعات الاقتصادية لتركيا.
ساهمت السياسات الحكومية الحالية فى إبطاء تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية. وفى الفترة بين يوليو 2016 ومارس 2017، خفضت ثلاث وكالات تصنيف ائتمانى تصنيفات الائتمان السيادى لتركيا، مشيرة إلى مخاوف بشأن سيادة القانون، وسرعة تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية. بعد أن شهدت تركيا أزمة مالية حادة فى عام 2001، نفذت الحكومة إصلاحات اقتصادية فى إطار برنامج تم تنفيذه بالتعاون مع صندوق النقد الدولى. ونتج عن برنامج الإصلاح الاقتصادى دخول تركيا فى عصر النمو القوى؛ حيث بلغ متوسطه أكثر من 6 بالمائة سنوياً حتى عام 2008. كما نفذت الحكومة برنامج خصخصة قوياً أدى إلى خفض مشاركة الدولة فى الصناعة الأساسية، والبنوك، والنقل، وإنتاج الطاقة، والاتصالات. كما انتعش نمو الناتج المحلى الإجمالى إلى حوالى 9 بالمائة فى عامى 2010 و2011. كشف نمو الناتج المحلى الإجمالى التركى منذ عام 2016 عن استمرار الاختلالات الأساسية فى الاقتصاد التركى، وعلى وجه الخصوص العجز الكبير فى الحساب الجارى. كما أن تركيا تعتمد على تدفقات الاستثمار الخارجى لتمويل النمو، ما يجعل الاقتصاد أكثر عُرضة للتأثر بالعوامل التى تسبب زعزعة ثقة المستثمرين. وتشمل الاتجاهات الأخرى المؤثرة على الاقتصاد التركى ارتفاع معدلات البطالة؛ والتضخم الذى بلغ معدله فى يوليو الماضى 16 بالمائة، وهو أعلى مستوى منذ 14 عاماً. على الرغم من أن الدين الحكومى لا يزال منخفضاً عند حوالى 30 بالمائة من الناتج المحلى الإجمالى، فقد تضاعف حجم الاقتراض من البنوك ومؤسسات التمويل إلى ثلاثة أضعاف تقريباً كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى، خلال العقد الماضى، ما أثار مخاوف المستثمرين بشأن استمرار الاقتراض على هذا النحو على المدى الطويل.
وعلى صعيد آخر، تتراجع إيرادات النقد الأجنبى من السياحة والتصدير. فقد تأثرت السياحة؛ بسبب توتر العلاقات مع الدول الأوروبية، كما تفاقمت حالة الصادرات التركية؛ بسبب المشاكل الأخيرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن تم فرض رسوم جمركية مضاعفة على الصادرات التركية من الألومنيوم والصلب.
وبحسب أحمد السيد النجار، رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام السابق فى مقال حديث، يدور عجز الميزان التجارى التركى حول مستوى 85 مليار دولار سنوياً. كما ارتفع عجز ميزان الحساب الجارى من 3.8 بالمائة من الناتج المحلى الإجمالى التركى عام 2016، إلى نحو 5.5 بالمائة من الناتج عام 2017، وسوف يبلغ نحو 5.4 بالمائة من الناتج عام 2018. وتفاقمت الديون الخارجية وزادت على 400 مليار دولار، ومنها نحو 102 مليار دولار ديوناً قصيرة الأجل، ومدفوعات خدمتها وبخاصة الديون قصيرة الأجل تشكل عبئاً ثقيلاً.
كما أشار «النجار» إلى ضعف الطلب الفعال فى الداخل نتيجة سوء توزيع الدخل؛ حيث تعد تركيا بين أسوأ دول العالم فى هذا الصدد. وتشير بيانات تقرير الثروات العالمى إلى أن أغنى 10 بالمائة من السكان فى تركيا يستحوذون على 77.7 بالمائة من الثروة التركية، وهى تصنف ضمن أسوأ دول العالم فى توزيع الدخل.
وفى ظل التعويم الكامل لليرة التركية، فإنها أصبحت مجالاً خصباً للمضاربة، ما يؤثر على سعر الصرف بشدة. كل هذه الأسباب وأكثر قد أدت إلى الوضع الحرج لسعر صرف الليرة التركية أمام الدولار الأمريكى والعملات الأجنبية الأخرى. إذا ما يدعيه الرئيس التركى أن الانخفاض الكبير فى سعر صرف الليرة بسبب الحرب على تركيا لا مجال لصحته بالمرة. وما تنشره الأبواق الإعلامية عن قوة الاقتصاد التركى ما هو الا جزء من مخطط تديره تركيا وحلفاؤها لخلق صورة ذهنية ضخمة تدعم الدور الذى تسعى تركيا إلى أن تمارسه فى المنطقة باعتبارها قوة عسكرية واقتصادية إقليمية كبرى.
الخلاصة أن فقاعة الاقتصاد التركى قد انفجرت، وكشفت عن هشاشة اقتصاد «الأغاوات». فبينما تسعى الآلة الإعلامية الجهنمية للتقليل من شأن مصر من الناحية العسكرية والسياسية والاقتصادية، أزاحت الأزمة التركية الأخيرة النقاب عن حقيقة الأوضاع فى تركيا وانكشف المستور.
حمى الله مصر وشعبها
بقلم: هانى أبوالفتوح
خبير اقتصادى
[email protected]