بقلم: محمد العريان، مستشار اقتصادي لمجموعة “أليانز”
سواء من قبيل الصدفة أو لا، تحاول تركيا إعادة كتابة فصل إدارة الأزمات فى كتاب الأسواق الناشئة، وبدلاً عن الاتجاه لرفع أسعار الفائدة، واللجوء إلى مؤسسة تمويل خارجية لدعم التعديلات السياسية المحلية، تبنت الحكومة خليطاً من التدابير غير المباشرة وذات التأثير الجزئى، وكل ذلك فى وقت تخوض فيه حرب تعريفات متصاعدة مع الولايات المتحدة، وتتسم فيه الأوضاع الاقتصادية العالمية بالاضطرابات.
وماذا سينتج عن كل ذلك لا يهم تركيا فحسب، وإنما الاقتصادات الناشئة الأخرى المضطرة بالفعل لمواكبة موجات العدوى المالية.
وتماشياً مع النص التقليدى للأزمات فى الأسواق الناشئة، امتدت أزمة العملة فى تركيا إلى أسواق ناشئة أخرى، وكما هو الحال دائماً، كانت أول موجة عدوى فنية بطبيعتها، يقودها فى الأساس التدفقات الخارجة من أسواق الأسهم والسندات التركية، وكلما طالت مدة العدوى، ازدادت المخاوف بأنها ستؤدى إلى نتائج اقتصادية ومالية أكثر زعزعة للاستقرار، ونتيجة ذلك، شعرت البنوك المركزية في العديد من الاقتصادات الناشئة – مثل الأرجنتين وهونج كونج وإندونيسيا – أنها مضطرة لاتخاذ تدابير مضادة.
وماذا أتى لاحقاً هو ما يجعل هذا الفصل من أزمات الأسواق الناشئة مختلفاً على الأقل حتى الآن.
وبدلاً من اتباع المسار الذي اخذته دول عديدة – بما فى ذلك الأرجنتين في بداية العام الحالى – ورفع أسعار الفائدة وطلب نوع من أنواع الدعم من صندوق النقد الدولى، رفضت تركيا الخيارين بطريقة علنية للغاية تضمنت تصريحات حادة من قبل الرئيس التركى رجب طيب أردوجان.
وفى مواجهة الانخفاض في قيمة العملة، والذي وصل في مرحلة ما إلى 50% أمام الدولار، اتخذت تركيا عدة تدبير في محاولة لمحاكاة – ولو جزئياً – النهج التقليدية الذي اتبعته الأسواق الناشئة في الماضي.
وقامت محلياً بتشديد شروط التمويل، وفي الوقت نفسه، قدمت سيولة للبنوك المحلية بجانب تخفيف شروط الاحتياطي الإلزامي، وصعبت على الأجانب الوصول إلى السيولة بالليرة، وهو ما ضيق المجال أمام المضاربين الذين باعوها على المكشوف، كما تعهدت بالتعامل مع الائتمان والفوائض المالية مع استبعاد فرض ضوابط على رأس المال.
أما خارجياً، فنقلت الحكومة 15 مليار دولار على الأقل من قطر لكي تستخدمها في الاستثمار الأجنبي المباشر في تركيا.
وفي وسط كل ذلك، وجدت الدولة الوقت للردود الانتقامية على مضاعفة التعريفات على صادرات المعادن التركية من قبل حكومة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب.
والسؤال يكمن فيما إذا كانت هذه التدابير كافية لإنهاء التقلبات، وإعطاء الاقتصاد التركي ونظامه المالي الوقت لاستعادة استقرارهما؟
وهذا الأمر ذو أهمية خاصة؛ لأن استمرار تقلبات العملة سيدفع الاقتصاد نحو الركود، ويرفع التضخم، ويضغط على النظام المصرفى، ويزيد حالات إفلاس الشركات.
ومع ذلك، يأتى أصعب سؤال على الإطلاق للحكومة، وهو: “هل تستطيع بث التعافى دون أن تخلف تعهدها بعدم رفع أسعار الفائدة أو اللجوء إلى صندوق النقد؟” ربما تتمكن من ذلك، ولكن على الأرجح لن تستطيع.
وبغياب التدابير الإضافية، من غير المرجح أن تكون الخطوات التصحيحية المهمة العديدة نجحت في تركيا، ورغم ان التعديلات السياسية المحلية منحت العملة استراحة قصيرة، فقد لا تكون شاملة ولا كافية بعد لأن تعود تركيا إلى المسار الواعد للنمو الاقتصادي الشامل والاستقرار المالي المستدام.
وعلى الجانب الخارجي، تبدو التمويلات من قطر، على افتراض أنها ستُستثمر بالكامل وفي الوقت المناسب، ضئيلة نسبة إلى الاحتياجات التمويلية الخارجية الإجمالية لتركيا، ولا يصاحبها ختم صندوق النقد الدولي الذي يطمئن الكثير من المستثمرين، كما أنه ليس واضحاً كيف ستجد هذه الأموال طريقها إلى الاقتصاد لتحقيق أقصى استقرار ممكن للعملة.
ومن ناحية أخرى، هناك النزاع التجاري مع الولايات المتحدة، ومثل الدول الأخرى، فإن المسألة مسألة وقت قبل أن تصل تركيا إلى نفس الإدراك بشأن مواجهة الموقف الأكثر حمائية الذي تتبناه الولايات المتحدة، بسبب حجم أمريكا وتأثيرها النظامي.
وعلى افتراض أن الولايات المتحدة ستظل مستعدة لتحمل بعض الدمار في هذه العملية، فهي ستفوز على الأرجح في أي تصعيد لحرب التعريفات الجمركية.
ونتيجة ذلك، فإن أفضل نهج هو ما قرر الاتحاد الأوروبى فعله الشهر الماضى، وهو البحث عن طريقة لوقف الخلاف، والعمل على القضايا الأساسية الأطول أجلاً.
وبدلاً عن إعادة كتابة خطة اللعب لإدارة الأزمات في الأسواق الناشئة، فقد ينتهي الأمر بتركيا إلى تأكيد النهج التقليدى، ونأمل أن يقودها ذلك إلى استعادة الاستقرار المالي والنمو، وإلى مراجعة الحكومة موقفها بشأن استقلال البنك المركزي، وسياسة أسعار الفائدة، وربما أيضاً صندوق النقد.
ولكن البديل – المتمثل فى استمرار النهج الحالي، وبالتالى إثارة مخاطر تحول التقلبات الفنية إلى اختلالات اقتصادية ومالية أكثر ضرراً على المدى البعيد – سيكون له نتائج سيئة للاقتصادات الناشئة الأخرى.
إعداد: رحمة عبدالعزيز.
المصدر: موقع “بروجكت سينديكيت”.