لكل شعب تراث يحافظ عليه، ويمثل جزءاً هاماً فى معتقداته وأسلوب الحياة. هذا التراث إما أن يدفع الأمة إلى السير قدماً إلى الأمام لتكون فى مصاف الدول الرائدة، وإما أن يعرقل سيرها فى محاولات لتصحيح المسار ومعالجة الجوانب السلبية الموروثة. ومن التراث البغيض لدى بعض الشعوب هو المحاولات المستميتة للتهرب من دفع الضرائب بجميع أنواعها، أو استخدام الأساليب الملتوية لسداد أقل قيمة ممكنة من الضرائب المستحقة. ولا يجد المكلف بدفع الضرائب أى غضاضة فى ذلك إيماناً منه بأن التهرب الضريبى يوفر مبالغ هو أحق بها من الحكومة وأن «اللى يجى منهم أحسن من عينهم». ومن أجل إضفاء الدافع الشرعى للتهرب الضريبي، يضع نصب عينيه عبارات تبرر فعله مثل «أنا لا أحصل على مقابل من خدمات الحكومة – هى الحكومة بتصرف الفلوس فين؟».
فى هذا المقال سوف أوجز ما هو التهرب الضريبي، وكيف يختلف عن التجنب الضريبي، وما هى أسبابه، وما هى آثاره، والآليات للحد من هذه الظاهرة.
تعتبر الضريبة مصدراً مهماً وأساسياً فى اقتصاد الدولة، خاصة باعتبارها مصدراً ممولاً للخزانة العامة، كما تسهم فى المحافظة على التوازن الاقتصادي، وكذلك تحقيق العدالة فى توزيع الدخل ومواجهة النفقات العامة.
أما ظاهرة التهرب الضريبى فهى ظاهرة عالمية، ولا تقتصر على الدول النامية فقط دون غيرها، بل هى توجد أيضاً فى الدول المتقدمة، وتعد أحد المعوقات الأساسية للتنمية.
إذن التهرب الضريبى هو لجوء الممول إلى فعل أو أفعال مخالفة للقانون على أساسها لا يقوم بالوفاء بالضريبة كلياً أو جزئياً. وللتهرب أسباب عديدة؛ منها أسباب تاريخية ترجع إلى شعور الأفراد بأن الحكومات تفرض الضرائب من أجل المصالح العامة شئون الدولة بما يعود بالنفع على المواطن، بينما يترسخ فى الذهن أن الضرائب تُجبى لصالح الحاكم، وأنها لا تعدو إلا أن تكون مظهـــراً من مظاهر الظلم الذى يجب مقاومته. وعلى هذا الأساس يكون التهرب من سداد الضرائب نوعاً من أنواع المقاومة المشروعة ضد السلطة.
وللتهرب الضريبى أسباب سياسية واجتماعية. مع تطور الحياة السياسية فى كثير من الدول وظهور نهج الفكر الاشتراكى زادت الحاجة إلى فرض مزيد من الضرائب ورفع التعريفة الضريبية. ومع تغيير النظم والانتقال تدريجياً إلى النظم الرأسمالية، ارتفعت الحاجة إلى زيادة النفقات العامة، خصوصاً مع الاتجاه إلى التوسع فى المشروعات، ما أدى إلى اللجوء إلى فرض مزيد من الضرائب. نتيجة ذلك زادت الأعباء الضريبية مما نتج عنه عدم تمكين الأفراد من الادخار، وإلى الشعور بالتهديد الذى سوف يطال أموالهم فتمردوا على قوانين الضرائب، وسلكوا شتى السبل المختلفة للتهرب من الضرائب اعتقـاداً منهم بأن هذا الأسلوب هو حق مشروع ودفاع ضد فرض الضرائب الجائرة.
أما عن الأسباب الأخلاقية للتهرب الضريبى فهى ترجع إلى ضعف الانتماء والروح الجماعية والتضامن الاجتماعى والوعى بأهمية الضرائب. كما تتمثل فى رغبة الأفراد فى جنى العائد المادى السريع الذى يتحقق من ممارستهم لأنشطتهم المختلفة دون الالتفات إلى الصالح العام وما يجب أن يؤدى مقابل الخدمات العامة التى تقدمها لهم الدولة لتحقيق هذا العائد، ما جعل بعض المواطنين يمتنعون عن المبادرة بأداء الضريبة فى تمويل النفقات العامة للدولة. كما أن ضعف الثقة بين الممول ومصلحة الضرائب يزيد الأمر سوءاً.
وأخيراً هناك أسباب تشريعية وإدارية تدفع إلى التهرب الضريبى منها ارتفاع التعريفة الضريبية، والمعاملة المتميزة لبعض الأنشطة أو الدخول على حساب أنشطة ودخول أخري، ووجود ثغرات قانونية، والتعدد والازدواج الضريبي، وتعدد الإجراءات وتعقيدها، والسلطة التقديرية الكبيرة الممنوحة لمأمورى الضرائب، بالإضافة إلى تعقيد الإجراءات الإدارية الخاصة بالحصر والفحص والتحصيل وطولها.
كل هذه الأسباب لها آثار سيئة على الاقتصاد وتضر بحقوق الخزانة العامة. كما أنها تؤثر فى قدرة الدولة على الإنفاق العام، وتربك خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ما يدفع الدولة إلى فرض مزيد من الضرائب أو زيادة أسعار التعريفة الضريبية الحالية لمواجهة العجز فى الإيرادات.
وحتى تكون الأمور أكثر وضوحاً هناك فرق بين التهرب الضريبى والتجنب الضريبى الذى يعنى أن يتمكن الشخص من تجنب دفع الضريبة باستغلال ثغرات القانون دون أن يخالف للقانون. بمعنى آخر، يتم تجنب الضريبة من خلال استغلال الثغرات الموجودة فى القوانين والتى تكون نتيجة عدم دقة النصوص أو عدم إحكام صياغتها أو عدم مواجهتها لجميع الاحتمالات الممكنة، ما يؤدى إلى أن يتمكن الشخص من استغلال النصوص واستخدامها أو تفسيرها لصالحه دون أن يخالفها. لذلك لا توجد عقوبات فى حالة التجنب الضريبي. ويجب على الدولة إذا أرادت أن تحد من التجنب الضريبى أن تقوم بتعديل القانون بما يسد الثغرات الموجودة.
وبالعودة إلى الوضع فى مصر، تقدر مصلحة الضرائب حجم التهرب الضريبى بأكثر من 400 مليار جنيه سنوياً، وذلك وفقاً لتقارير مصلحة الضرائب. وهو رقم بلا شك كبير جداً، خصوصاً أن حصيلة الضرائب تشكل نحو %75 من مصادر الإيرادات فى الموازنة العامة.
لعل السؤال الذى يطرح نفسه هو «من هم المتهربون من الضرائب؟ هل المصريون الأسوأ فى القائمة بين الدول الأخرى؟ ما هى أكبر عشر دول تعانى من التهرب الضريبى بسبب الاقتصاد غير الرسمي؟».
بصفة عامة المتهربون من الضرائب هم فئات متعددة فى المجتمع تضم رجال الأعمال وأصحاب الشركات، والتجار وأصحاب المحلات، والأطباء، والمدرسون، بالإضافة إلى أصحاب العقارات والوحدات السكنية. أغلب هذه الفئات تعمل فى قطاع الاقتصاد غير الرسمي. لذلك تهتم الدول كثيراً بضم القطاع غير الرسمى إلى الاقتصاد الرسمى للدولة.
بالقطع مصر ليست من أسوأ الدول التى تعانى من ضياع حصيلة الضرائب؛ نظراً إلى حجم الاقتصاد غير الرسمى الذى لا تعلم عنه الدولة أى شيء؛ لأنه يعمل خارج المنظومة الرسمية للأعمال.
دعونا ننظر فى نتائج دراسة أعدتها شبكة العدالة الضريبية، وهى هيئة رقابية مقرها لندن.
كشفت الدراسة، أن الولايات المتحدة لديها معدلات ضريبية أقل من ثمانٍ من الدول التسع الكبرى المدرجة على قائمة أكبر عشر دول التى تتكبد خسائر؛ بسبب التهرب من الضرائب. الدول المدرجة على القائمة حسب الترتيب هى الولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل وإيطاليا وألمانيا وروسيا وفرنسا واليابان والصين والمملكة المتحدة وإسبانيا.
تصنف الولايات المتحدة فى المقام الأول على أساس أن اقتصادها كبير جداً. ومع ذلك، فإن الأمريكيين أكثر استعداداً لدفع ضرائبهم أكثر من الأفراد فى الدول الأخرى، وهو يرجع إلى وعى الأفراد ونظرتهم إلى أن سداد الضرائب واجب قومي، وأن التهرب من هذا الواجب يعد عملاً غير أخلاقى مخلاً بالنزاهة.
وفى الختام أود الإشارة إلى أن مسئولية الحكومة فى شأن مكافحة التهرب الضريبى لا تنحصر فى تعديل القوانين وتبسيط الإجراءات فحسب، بل تمتد إلى مسألة مهمة جداً وهى دعم جهود تغير عقيدة الأفراد وكيانات الأعمال فى مصر التى لا ترى أن التحايل على الضرائب أمر غير أخلاقي. يجب على الدولة أن تسعى بجميع الطرق إلى زيادة الوعى لدى الأفراد والكيانات التجارية من أجل تغيير الموروث الثقافى الذى يشجع على التهرب من الضرائب، وغرس ثقافة جديدة مفادها أن سداد الضرائب يسهم بشكل مباشر فى تحقيق خدمات أفضل للمواطن وتعزيز النمو الاقتصادي.
بقلم: هانى أبوالفتوح
خبير اقتصادى