تعرضتُ فى المقالين السابقين لثلاث طرق يُمكن من خلالها وضع آلية لتسعير الوقود، بعدما يتم رفع الدعم عنه نهائياً وهى «الإدارة الحكومية» دون الإخلال بأسس السوق الحر، و«الربط المباشر بالسعر العالمى للنفط»، و«الاتفاق طويل الأجل مع شركات التوزيع وبينها البعض على سعر ثابت لمدة محددة».
أما فى هذا الجزء الأخير فسأتطرق إلى الطريقتين المتبقيتين، وأطرح أخيراً وجهة نظرى الشخصية عما هى أنسب الأساليب الخمسة بالنسبة للظرف المصرى بجميع مكوناته الاقتصادية والاجتماعية.
ومن ضمن الأساليب المطروحة هو الاتفاق مع شركات التوزيع والإنتاج على ربط سعر الوقود بما يطرأ من تغييرات على سعر سلة السلع التى يتخذها البنك الدولى أساساً لاحتساب تكلفة المعيشة Cost of Living ونسب التضخم Inflation Rates وتعديلها وفقاً لهذا المعيار.
وهذه الطريقة فى الواقع قد يبدو للوهلة الأولى أنها الأكثر عدالة للجميع، المُنتجين والموزعين والمستهلكين وهى بالفعل تتسم بقدر كبير من مثل تلك العدالة ولكن ليس على إطلاقه؛ لأن هذه السلة فى حد ذاتها لا تعكس دائماً الأوضاع الفعلية على الأرض، وهى بالتالى قد تظلم طرفاً من أطراف المعادلة أو جميعهم معاً لما كانت احتياجات المستهلكين الحقيقية نتاج ثقافات محددة وأنماط معيشة معينة وليست خاضعة بالضرورة لافتراضات البنك الدولى أو غيره من المؤسسات المالية العالمية.
فالوزن النسبى الفعلى للأغذية فى مصر مثلاً أعلى بكثير من المتوسط العالمى، بل إن تكلفة الوقود تحديداً قد تختلف من مدينة لأخرى حسب حالتها المرورية؛ حيث لا يمكن على سبيل المثال مقارنة نيويورك سيتى وقت الذروة بإحدى المدن الصغيرة فى ولاية ريفية مثل مونتانا وهكذا.
كما أن أسعار النفط العالمية لا توجه نفسها حسب الظروف المعيشية فى دولة معينة، سواء كانت مصر أو غيرها.كما يتحدث البعض، أيضاً، عن إمكانية تحديد سعر البنزين المُحرر كاملاً من الدعم عبر آلية العرض والطلب وحدها دون أى معايير على أمل أن يكون أدم سميث مُحقاً وتخلق المنافسة بين الشركات المختلفة سوقاً متوازنة للوقود على غرار الولايات المتحدة.
وهذه الآلية بالفعل ليست سيئة فى المُطلق ولها العديد من المميزات وقد تضمن حماية شاملة للمستهلكين وأسعاراً تعكس التكلفة الحقيقية زائد هامش ربح معقول ولكنها أيضاً يمكنها أن تؤى إلى أن «ينقلب السحر على الساحر» وتقدم الشركات على إبرام اتفاقيات احتكارية Cartelization من خلف الأبواب المغلقة، وسيصعُب على جهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار إثباتها أو أنها – فى السيناريو العكسى – سينتُج عنها حرب ضروس ما بين الشركات ستكسبها فى نهاية المطاف بالطبع كبرياتها لتنفرد بالسوق فيما بعد وتحركه، وفقاً لمصالحها.
كل الطرق لها إذن ما يُميزها وما يعيبها ويبقى السؤال عن النهج الذى يجب أن تتبعه الحكومة الصرية فى هذا الشأن قائماً، ولا أحسد حقاً رئيس الوزراء ولا وزير البترول على موقفهما وقتها وهما سيتعرضان للنقد الشديد بما ربما يهدد مستقبلهما الوظيفى أياً كانت اختياراتهما فى نهاية الأمر.
وموقفى الشخصى هو أن «الإدارة الحكومية» فى ظل الواقع المصرى الحالى هى أسوأ الدروب على الإطلاق لأنها غير متوافقة مع واقع الإطار الاقتصادى المصرى فى المرحلة الحالية حتى وإن كنت أؤيدها فى مفهومها المطلق ولكن فى ظرف مُغاير تماماً.
أما أفضل ما يمكننا فعله فهو «الاتفاق طويل الأجل مع شركات التوزيع وبينها والبعض على سعر ثابت لمدة محددة» مع تغييره فى نهاية كل مدة بناءً على متوسطات أسعار المدة التى سبقتها.
هذا بالرغم من أننى قلت بالفعل الأسبوع الماضى، إنَّ هذا قد يعرض السوق لهزات عنيفة كل عام. ومن أجل تفادى ذلك أقترح تقليل الفترة قدر المستطاع بما قد يصل إلى دورات نصف أو حتى ربع سنوية، وهو ما أرى أنه سيخفض تحريك أسعار الوقود فى كل دورة إلى ما لا يزيد على عشرين قرشاً صعوداً أو هبوطاً فى كل مرة.وبما أننى كنت ومازلت رافضاً لتقييد قطاع الوقود بالمزيد من الضوابط التشريعية التى غالباً ما سيكون من شأنها إحداث الفوضى به، أعتقد أننا يمكننا ضمان التزام الشركات عبر ربط ترخيصها بعقدها اتفاقية مكتوبة مع الهيئة العامة للبترول تجبرها على خفض سعر بيع اللتر وقت انخفاض تكلفته وإلا فُرضت غرامات مالية مؤثرة أو يُسحب ترخيصها مؤقتاً ثم نهائياً، ليس بصيغة تشريعية مباشرة ولكن بمنطق أن «العقد شريعة المتعاقدين».
وأخيراً أؤكد أننى سأرتضى أيضاً بجميع الحلول الأخرى أياً كانت وأن المهم فعلياً هو اتخاذ القرار فى وقت مُبكر والتحضير له جيداً كى لا يخرج فى النهاية عشوائياً وغير مدروس بما سيضر الجميع، وعلى رأسها الاقتصاد الكلى ومحاولات الحكومة لزيادة النمو وخفض نسب البطالة والتضخم ولا يمكن لها حينها أن تلوم سوى نفسها.