جميع أنواع العلوم تؤثر فى بعضها البعض، وجميعها يؤثر فى الاقتصاد ويتأثر به، ولذلك فى هذه المقاله سأتعرض للمؤثر الأساسى على الاقتصاد وعلى جميع العلوم وهو «الإنسان»، وكيف وصل العلم إلى حد التحكم فيه وفى اختياراته وقراراته.
جميعنا يحب أن يستمع إلى أنواع موسيقى خلال مختلف نشاطاته اليومية سواء أثناء ممارسة الرياضة أو التركيز لأداء بعض المهام أو حتى عند الخلود للنوم، بالطبع تؤثر الموسيقى على حالتنا المزاجية بل وعلى استقبالنا للأخبار والتعامل معها.
هناك جزء فى المخ يدعى بالدماغ البينى «Diencephalon» وهو المسئول عن مهام كثيرة منها نشاط الفرد فى حالة وعيه والتحكم فى نظامه العصبى وردود أفعاله.
وينقسم إلى 4 أجزاء، ولكن للإيجاز وعدم الإصراف فى التفاصيل سنتكلم فقط عن جزء يدعى المهاد «Thalamus» الذى بدوره يرسل إشارات كهربائية إلى القشرة الدماغية «Cerebal Cortex» لينظم الوعى والنوم والتركيز.
وفى أربعينيات القرن العشرين، اخترع عالمان جهاز قادر على رسم موجات المخ يدعى بالـEEG وبهذا الاختراع، الذى يعد من أفضل الاختراعات للمهتمين بعلم الأعصاب (ولمستقبل الإنسانية فى رأى)، وصل العلماء لرصد أشكال مختلفة لموجات المخ تتشكل على حسب نشاط الفرد وحالته المزاجية، فقسموا موجات المخ «Brain Waves» إلى 4 أشكال:
• الشكل الأول هو النوم العميق وتكون كهرباء المخ فى أقل حالتها (من 0.5 لـ 3 Hertz) وسُميت بـ«Delta Waves».
• الشكل الثانى هو النوم غير العميق الذى تصاحبه الأحلام، وتكون كهرباء المخ فيه أقل من متوسة (من 3 لـ 8 Hertz) وسُميت بـ«Theta Waves».
• الشكل الثالث ويكون المخ فى أفضل حالاته حيث يجمع الهدوء والتركيز والراحه، واكتشف العلماء أنه من الممكن الوصل لهذه الحالة من خلال «اليوجا» وتكون كهرباء المخ متوسطة (من 8 لـ 12 Hertz) وسُميت بـ «Alpha Waves».
• الشكل الرابع ويكون المخ فى أقوى وأعنف حالاته وهى مراحل الحزن أو الفرحة أو التفكير الشديد وتكون كهرباء المخ فى أعلى مراحلها وسُميت بـ«Beta Waves».
وبعد أن أصبح من السهل قراءة حالة الفرد المزاجية، ركز العلماء جهودهم على التأثير على حالته المزاجية أيضاً من خلال التغيير فة شكل موجات المخ، ومن أوائل الطرق والتى أثبتت نجاحاً قوياً – من خلال التجارب – هى «الموسيقى».. نعم الموسيقى! وهو ما يدعى بـ «Binaural beats electrical stimulation»، وهذا النوع من الموسيقى أصبح معروفاً وموجوداً على مواقع مختلفة نستخدمها جميعاً فى حياتنا اليومية، ثم أضافوا إلى الموسيقى بعض الفيديوهات التى تحتوى على إضاءات تُنشط بعض المراكز الحسية فى المخ، ومؤخراً اكتشفوا أيضاً إيمكانية التأثير على موجات المخ من خلال تغير ضربات القلب.
الحقيقه أننى، كمهتم بالاقتصاد وعلم المال، أحاول أن اتخيل كيف يمكن أن تُغير هذه الاكتشافات نظريات ومبادئ اقتصادية عديدة، حيث أن الاقتصاد وعلم المال كانوا المفسرين الأساسيين لاختيارات الأفراد حتى منتصف القرن الماضى، فمثلاً «نظرية المنفعة» وما بُنى عليها من نظريات عديدة فى علم المال تفترض تصرف المستهلك (أو المستثمر) بطريقة عقلانية ومفهومة، حتى اكتشفنا أن أغلب تصرفاته فى الواقع غير مفهومة (مما جعل العالم يتطرق للاقتصاد السلوكى)، ولكن بهذا التطور العلمى، لم نصبح قادرين فقط على قراءة الطريقة «غير المفهومة» فى اتخاذ القرارات بل أيضاً أصبحنا قادرين على التحكم فى سلوك الفرد وقرارته، الفرد الذى يشكل المجتمع. المجتمع الذى من الممكن مستقبلياً التحكم فى معدلات ذكاء أفراده واختياراتهم قبل أن يختروها وميولهم الدينية ونتحكم فى مدى سعادتهم ومشاعرهم ومدى إبداعهم بل وأيضاً فى قدرتهم على جمع الثروات.
ونلاحظ مدى التفات الاقتصاديين إلى هذه العلوم، فمثلاً هناك ما يُعرف بالتسويق عن طريق علم الأعصاب «Neuro Marketing» الذى من خلاله يراقب باحثين علم «الاقتصاد السلوكى» العوامل التى تؤثر فى كهرباء المخ ومن ثم موجاته والأجزاء التى تنشط فيها أثناء القيام بعملية الشراء، وأيضاً، تطورت دراسات الاقتصاد السلوكى إلى ما يعرف بعلم اتخاذ القرار «Neuroeconomics» وهو علم يدمج علم الأعصاب وعلم النفس والاقتصاد وكيفية تأثيرهم على قرارات الفرد أو المستهلك.
إن التطورات العلمية مثل هذا النوع تجعلنا حائرين عن مدى تأثير وتأثُر الاقتصاد بها.. بل أيضاً تجعلنا نتجه لأسئلة فلسفية أكثر تعقيداً حول وجود الإنسان كمركز التغير الأساسى فى الكون، أم أننا تحت خط سير مسبق يعلم أننا سنغير ما كنا نعتبره فى الماضى غير قابل للتغير.