بقلم: فريديناندو جويجليانو
محرر رأى فى “بلومبرج”
لم تغرق لندن فى ظلام كئيب منذ واقعة الضباب الكبير عام 1952.
وتعد السياسة البريطانية فى حالة من الفوضى؛ نظراً إلى عدم قدرة صناع السياسة على الاتفاق على متى، وتحت أى ظروف يريدون الرحيل عن الاتحاد الأوروبى؟
ولم يرفض مجلس العموم الصفقة التى تفاوضت عليها رئيسة الوزراء، تيريزا ماى، لعامين، مرة واحدة فقط بل مرتين، ويفضل معظم الساسة خروجاً بريطانياً متفاوضاً عليه يسمح بفترة انتقالية، ولكن بروكسل لا تريد منح أكثر مما منحته لـ”ماى”.
ويبدو تأجيل موعد الخروج فى 29 مارس حتمياً، فى ظل ازدياد جاذبية إجراء استفتاء آخر أو انتخابات رئاسية، ومع ذلك، تبقى احتمالية خروج غير منظم لبريطانيا قائمة، مثلما حذر مفاوض الاتحاد الأوروبى، ميشيل بارنر.
وأياً كانت النتيجة السياسية، لا يوجد خيارات جيدة للاقتصاد البريطانى، فإذا حدث الخروج دون صفقة، فسوف تنزلق بريطانيا فى فوضى تمتد آثارها عبر الأسواق المالية العالمية، ولكن حتى مع النتيجة الأكثر احتمالية وهى الرحيل المنظم – ربما بعد التأجيل – سوف تستمر ببساطة حالة عدم اليقين التى أعاقت الناتج البريطانى فى الشهور الأخيرة، ولن تحصل الشركات على الأجوبة التى تبحث عنها منذ سنوات.
وتوجد أدلة متزايدة تشير إلى أن اقتصاد الدولة تباطأ منذ التصويت لصالح الخروج، وتعافى الدخل القومى إلى حد ما فى يناير، ولكنه جاء بعد مجموعة من البيانات الضعيفة بنهاية العام الماضى، وكان النمو هزيلاً فى الثلاثة أشهر حتى يناير عند 0.2%، وفقاً لمكتب الإحصاءات الوطنية.
وأشار مؤشر مديرى المشتريات المركب، الذى يقيس النشاط الاقتصادى، إلى نمو بنسبة 0.1% فى الربع الأول من 2019، ويتوقع مكتب مسئولية الموازنة البريطانى، توسع الاقتصاد بنسبة 1.2% العام الجارى، بانخفاض من توقعاته بنمو نسبته 1.6% فى الخمسة أشهر الماضية.
وتتمثل إحدى القوى السلبية فى تراجع الاستثمار، وقال جوناثان هاسكل، أجدد عضو بلجنة السياسة النقدية فى البنك المركزى البريطانى، إن الاستثمار من قِبل الشركات بعد الاستفتاء تراجع مقارنة باتجاهه التاريخى، ومقارنة باقتصادات مجموعة السبع، وكان معدل نمو الاستثمار يبلغ 2.9% إذا نما بنفس وتيرة متوسط دول مجموعة السبع “باستثناء بريطانيا”، وبدلاً من ذلك، تراجع بنسبة 0.4%، وهو ما يعنى أن “البريكست” يفسر نحو 70% من التباطؤ فى الاستثمار.
وتدعم الدلائل التقديرية هذا التحليل، وهو ما سيظهر على حياة الشعب، وسوف تنقل “نيسان موتورز” إنتاج بعض السيارات من مدينة ساندرلاند جنوب إنجلترا، وتقترب هوندا موتور من إغلاق مصنعها الكبير فى سويندن، ورغم أن الشركات تصر على أن القرارات لا تعود بالكامل إلى خروج بريطانيا، من المضحك أن نعتقد أن محاولة بريطانيا ليس فقط الخروج من الاتحاد الأوروبى، وإنما أيضاً من السوق الموحد، لا تؤثر على المستثمرين الأجانب.
ويأمل المرء أن يكون الوضع الحالى مؤقتاً، ووفقاً لرواية المتفائلين، بمجرد أن تغادر بريطانيا الاتحاد الأوروبى بالفعل، سوف تعرف الشركات ماذا تتوقع، وسوف تواصل شراء المعدات والآلات، وبالفعل، رفع مكتب مسئولية الموازنة توقعاته للنمو للعامين المقبلين على افتراض التوصل لصفقة، وتقف التوقعات الآن عند توسع بنسبة 1.4% فى 2020 و1.6% فى العام التالى.
ولكن هذا التفاؤل فى غير محله، فهناك 3 سيناريوهات للشركات فى بريطانيا، ولا يبدو أى منها جيداً، الأول هو الخروج الكارثى، عندما تخرج بريطانيا من الاتحاد دون صفقة انسحاب، ومن الصعب غياب التفكير فى عدم معاناة أى قطاع، بدءاً من الأدوية إلى الطيران.
وقد تحتاج الشركات للإنفاق للتعامل مع الاضطرابات، ولكن سيتضاءل ذلك مقارنة بالانخفاض فى الطلب المحلى والأجنبى، وقد يخفف البنك المركزى السياسة النقدية للتعامل مع الركود، ولكن الهبوط فى الجنيه الإسترلينى والقيود فى جانب المعروض سوف يتسببان فى ارتفاع التضخم، وهو ما سيتطلب تشديداً نقدياً، فكيف سيحقق البنك المستحيل؟
وطالب “المركزى”، البنوك بمضاعفة أصولها السائلة ثلاثة أضعاف، وفقاً لصحيفة “فاينانشيال تايمز”، ولكن البنوك الأضعف سوف تظل فى مهب الريح، وفى حالة الخروج دون صفقة، ستكون أزمة الائتمان شبه أكيدة.
أما السيناريو الثانى، فهو الخروج المنظم، بموجب شكل من أشكال اتفاقات الانسحاب، ولكن هذا لن يجيب عن السؤال الجوهرى بشأن العلاقة المستقبلية مع الاتحاد الأوروبى، وفى ظل انغماس الحزبين الرئيسيين؛ المحافظ والعمالى فى الاقتتال الداخلى، لا أحد يعلم ماذا يريدون من الخروج أن يكون؟ وأى من الحزبين سيبقى فى السلطة؟ وإلى أى مدى سيتنازل الاتحاد الأوروبى؟ وكيف ستبدو اتفاقات بريطانيا التجارية مع بقية العالم؟
وحتى إذا طالبت بريطانيا ببعض الوقت للتفكير، فلن يوضح ذلك أى شىء للشركات البريطانية، والشىء نفسه يمكن أن يقال على إجراء استفتاء ثانٍ، وهو السيناريو الثالث، والذى قد يتطلب عاماً لترتيبه، وقد ينتهى بالنتيجة نفسها، ما يتسبب بمزيد من الانقسام السياسى فى الدولة.
ووجد “هاسكل”، أن الاستثمار فى منتجات الملكية الفكرية صمد جيداً منذ التصويت، ربما لأنهم يواجهون معاناة أقل مع الحدود، ولكن سياسة الهجرة الأكثر صرامة بعد خروج بريطانيا، كما تفضل ماى، ورئيس حزب العمال، جيريمى كوربين، سوف تجبر هذه الشركات على الانتقال للخارج كذلك، وبالمثل، افتتحت الشركات المالية فروعاً بدول أخرى فى الاتحاد الأوروبى، وقد تبدأ منافسة تلك الواقعة فى بريطانيا، وربما يكون عصر خفض الاستثمار فى بريطانيا قد بدأ لتوه.
وكان المقصد من استفتاء الخروج، تسوية قضية علاقة بريطانيا مع الاتحاد الأوروبى بالنسبة للجيل الحالى، ولكن بالنسبة للشركات المستثمرة فى بريطانيا، فكل ما فعله هو بدء عصر من عدم اليقين الذى يتناقض بوضوح مع سمعة بريطانيا المكتسبة بصعوبة وهى القابلية للتوقع إلى حد الملل.
وقد قتل الضباب الكبير الآلاف فى لندن، ولكنه انقشع بعد أقل من أسبوع، وسوف يتطلب الأمر سنوات حتى يصفو سم “البريكست”.
إعداد: رحمة عبدالعزيز
المصدر: وكالة أنباء “بلومبرج”