دوائر الحكم الرسمية تتفوق على “ترامب” فى تشددها بمواجهة التهديدات
الرئيس الأمريكى يبحث عن الربح والاستثمار فى علاقات قوية مع الصين
التجارة أولوية البيت الأبيض قبل السياسية وحقوق الإنسان
“ترامب” يتجاهل مصالح الحلفاء ويعتبرهم عبئا سياسيا وماليا
10 مجالات صناعية وتقنية تسعى بكين للسيطرة عليها عالمياً
لجنة الاستثمار الأجنبى تضع خريطة منتجات تخضع لتدقيق شامل
وزارة العدل تؤسس “مبادرة التهديد الصينى” لكشف السرقات التجارية
لبى رؤساء بعض الشركات الكبيرة والمبتكرة الدعوة لحضور عرض فى ملحق بالبيت الأبيض خلال أكتوبر الماضى، وسط الأعمدة العالية فى قاعة المعاهدة الهندية ووقعوا على اتفاقيات عدم إفشاء للمعلومات التى سيطلعون عليها تسمح لهم برؤية مواد سرية، ثم أخبرهم مدير المخابرات الأمريكية دان كوتس واثنان من أعضاء مجلس الشيوخ كيف تسرق الصين أسرارهم.
كان هذا اللقاء غير المعلن بحسب مجلة “إيكونوميست” البريطانية فكرة السيناتور مارك وارنر، وهو ديمقراطى كبير فى لجنة المخابرات بمجلس الشيوخ وهو نفسه مستثمر ناجح بمجال التكنولوجيا، وانضم إليه السيناتور ماركو روبيو وهو جمهورى باللجنة.
يقول روبيو إن الاعتقالات الأخيرة للجواسيس الصينيين المزعومين تكشف فقط عن جزء صغير مما يجرى بل ويعتبرها هى أكبر تهديد شامل واجهته بلاده على الإطلاق لكنه يؤكد أن الهدف من مثل هذه التحركات الحفاظ على السلام.
وأضاف أن أى خلل فى العلاقات بين أمريكا والصين سيؤدى حتماً إلى نزاع خطير للغاية إذا ترك دون معالجة.
وخلال هذا اللقاء الذى دعا إليه روبيو أصحاب رؤوس الأموال المغامرة لحضور عرض عن تهديدات الصين أبدى انزعاجه من أن خطة عمل بعض الشركات فى “وادى التكنولوجيا” يتم التوغل فيها دون أن يهتم أحد بالضرورة إذا كان المستثمرون صينيين أم لا.
ودفعت التهديدات الصينية أعضاء الكونجرس إلى صياغة مقترحات لسلسلة من ضوابط التصدير الجديدة على المنتجات التى تعتبر مهمة للأمن القومى والاقتصادى، لا سيما من الصناعات التى تم تحديدها كأولويات بخطة “صنع فى الصين 2025”.
وتمثل هذه المنتجات خريطة صينية لبناء شركات تسيطر على العالم فى عشرة مجالات عالية التقنية حيث تواجه الاستثمارات الصينية تدقيقاً أكثر تشدداً من قِبل لجنة الاستثمار الأجنبى فى الولايات المتحدة.
ووسع تحديث قانون مراجعة مخاطر الاستثمار الأجنبى فى الآونة الأخيرة من مجالات عمل اللجنة مثل شراء العقارات بالقرب من المواقع الحساسة.
ويفرض مخطط يجرى تجربته إجراء مراجعات على أى حصص أجنبية فى مجموعة واسعة من “التقنيات الحيوية” مثل الاتصالات السلكية واللاسلكية والحوسبة الكمية والذكاء الاصطناعى وأى صناعة تشمل مجموعات البيانات الضخمة.
*آلة السياسة
يمثل هذا العرض مسعى من الحزبين بمشاركة الكونجرس ووكالة المخابرات قرب البيت الأبيض توصيفاً للحالة التى باتت تتصاعد معها الآراء ضد الصين عبر الدوائر الرسمية الأمريكية.
ويوجد إجماع جديد صارم يوحد ما يمكن أن يسمى آلة السياسة الخارجية الأمريكية، بما فى ذلك أعضاء من كلا الحزبين فى الكونجرس ووزارة الخارجية والبنتاجون ووزارة العدل ووكالات التجسس ومجلس الأمن القومى التابع للرئيس.
وتضم هذه الآلة نائب الرئيس مايك بينس الذى حول خطاباً فى أكتوبر الماضى إلى ورقة اتهام للأفعال الصينية بينما وقف ترامب بعيداً يستمع.
وبدأ قيادات البنتاجون وأعضاء الكونجرس أكثر من أى وقت مضى يدقون ناقوس الخطر بشأن نوايا الصين تجاه تايوان تلك الجزيرة الديمقراطية التى يبلغ عدد سكانها 24 مليون نسمة والتى تعتبرها أمريكا حليفاً، لكن الصين تعتبرها جزءاً من أراضيها قائلة إنه يجب أن تتوحد مع الوطن الأم وبالقوة إذا لزم الأمر.
ومما أثار قلق الصين إصدار الكونجرس قوانين تشير إلى التضامن مع تايوان وحث الحكومة على السماح للوزراء والسفن الحربية الأمريكية لزيارة الجزيرة فى حين أن بعض أقرب مساعدى الرئيس دونالد ترامب هم من داعمى تايوان منذ فترة طويلة.

وكرئيس منتخب فى عام 2016 تم إقناعه بالتحدث عبر الهاتف مع رئيس الجزيرة “تساى إنج ون” لكنه منع المقترحات الخاصة بالزيارات رفيعة المستوى لإظهار الدعم لتايوان كحليف ديمقراطى فهو يرى أن الحلفاء عبئاً والصين القوية هى نظير جدير بالمنافسة مع أمريكا.
*جدل داخلى
من الصعب تمييز وجود نظرة موحدة للصين ضمن فريق عمل ترامب حيث يستخدم مساعدى ترامب لغة قاسية ففى إشارة إلى قمع مسلمى الإيجور فى منطقة شينجيانج الشمالية الغربية، وصف وزير الخارجية مايك بومبو الصين بأنها واحدة من أسوأ دول حقوق الإنسان التى شهدها العالم منذ الثلاثينيات.
وتعبر هذه النبرة عن اتجاه عام يمارسه بعض أفراد الفريق بنسق رئيسهم لسحق مبدأ المجاملات الدبلوماسية، لكن فى حين تتفاعل آراء ترامب مع الصين مع آلة واشنطن السياسية فهى ليست متطابقة.
وكثير من المسئولين يشعرون بالاشمئزاز الشديد من أوضاع شينجيانج مع احتجاز مليون من الإيجور فى معتقلات تسمى “معسكرات إعادة التعليم” لكن رداً على سؤال حول كيف يمكن أن تتعايش العلاقات التجارية بين أمريكا والصين مع سياسات صارمة أجاب أحد كبار المسئولين فى الإدارة بشكل غير جاد قائلاً: “معسكرات الاعتقال تفسد المزاج ، أليس كذلك؟”
ومن المعروف أن مناقشات حقوق الإنسان على غرار الحرب الباردة ليست ذات أهمية تذكر لترامب لدرجة أن مايكل بيلسبرى المتخصص فى الشأن الصينى بمركز أبحاث معهد هدسون ومستشار متعاون من الخارج للبيت الأبيض يعتبر الرئيس الأمريكى ليس من الصقور الكبار فى مواجهة الصين.
وأضاف أن قضايا مثل تايوان أو شينجيانج لا يتردد صدى لها مع ترامب مثلما تفعل قضايا التجارة، وحتى على هذا الجانب يصفه بأنه أكثر حذراً من المستشارين مثل بيتر نافارو والذى يرغب فى استدعاء جميع الشركات الأمريكية من الصين.
ويردد ترامب كثيراً أنه لا يريد الإضرار باقتصاد الصين بل ويراها كمصدر لتحقيق الربح والاستثمار.
وتبدو رؤية ترامب وفق هذا التصور أقل عنفاً مما تريده الآلة السياسية فى واشنطن من تغيير المبادئ الأساسية لتعطيل نهضة الصين والذى أشاد بنظيره الصينى شي جين بينج لأنه وضع مصالح بلاده فى المرتبة الأولى.
ومع ذلك، من السهل إثارة غضب ترامب حين يخبره مساعديه بأن الصين “تسرق أسرارنا”، كما أنه يرى مخاطر سياسية فى أى صفقة تجارية يمكن اعتبارها علامة تصاعدية فى الحرب التجارية الدائرة.
ويرى بيلسبرى أن الرئيس الأمريكى يراعى بوضوح تام أن الديمقراطيين ينتظرونه أن يكون هادئاً فى التعامل مع الصين وهذا ما يؤيده السيناتور كريس كونس وهو ديموقراطى محذراً من أن فريق الصقور المعادى للصين فى الكونجرس الحالى يشبه الخمسينيات فى الحالة السوفييتية.

من جانبه حرص ترامب مع الإعلان عن زيادة التعريفات الجديدة فى 10 مايو الجارى ضد البضائع الصينية على نشر تويت دفاعية تؤكد أن الصين تتطلع إلى فوز مرشح ديمقراطى “ضعيف للغاية” فى انتخابات 2020 بدلاً من فوزه هو لتخفيف الضغط عليها.
ويسعى مسئول كبير فى إدارة ترامب إلى التوفيق بين المعسكرات المختلفة ليس على صعيد الشأن الاقتصادى كما يقول ولكن هدفه وضع إطار يحمى الصناعات الحساسة مع استمرار ارتفاع المخاطر السياسية والمالية المرتبطة بممارسة الأعمال التجارية فى الصين.
ويندهش الصينيون المعاصرون فى الوقت الحالى من وجود خلافات داخل إدارة “ترامب” ولا يدركون أن تصلب مزاج واشنطن سابق على وجود ترامب ويلاحظ إيفان ميديروس الأستاذ فى جامعة جورج تاون وهو مستشار رئيسى سابق لشئون آسيا فى عهد الرئيس السابق باراك أوباما أن هناك استراتيجية لبيروقراطية علاقة أكثر تنافسية بين واشنطن وبكين يجرى وضعها حالياً.
*نظرة أمنية
فى نوفمبر الماضى، أنشأت وزارة العدل “مبادرة التهديد الصينى” التى يديرها مدعون ومحققون تابعون لمكتب التحقيقات الفيدرالى، لاكتشاف المحاولات الصينية لسرقة الأسرار التجارية والتأثير على الرأى العام، لا سيما فى حرم الجامعات.
وفى وزارة الأمن الداخلى، يراقب المركز الوطنى الجديد لإدارة المخاطر الشركات عالية المخاطر التى تعمل فى مجال البنية التحتية الحيوية.
وبالنسبة لمكتب وزارة الخارجية الذى كان يركز سابقاً على الإرهاب وهو بمثابة مركز المشاركة العالمى بات لديه مهمة جديدة لمواجهة الدعاية المضادة من الصين وروسيا وإيران.
وتتزامن مخاوف البنتاجون حول الصين مع إدراك أنه عندما تعتمد القوات المعادية على مجموعة عالية التقنية يمكن أن تقتل عبر الهجمات الإلكترونية.
ويعتقد أيكنبرى الجنرال السابق بالجيش الأمريكى أنه فى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى ربما كان 70% من التكنولوجيا التى كانت تهم القادة العسكريين مملوكة للحكومة لكن 30% بقيت غير متداولة لكن الآن وصل تداول هذا النوع من التكنولوجيا الدقيقة إلى 70% فالكثير منها يأتى من “وادى السيليكون” حيث توجد شركات تعمل لأغراض مدنية.
وفرض الصراع الحالى أنه عندما يناقش المفاوضون التجاريون الأمريكيون سياسة الصين فإن رجال الأمن موجودون فى الغرفة للإدلاء بوجهة نظرهم.
وحذرت دراسة للبنتاجون بعنوان “تسليم غير منقوص” من أن سلاسل الإمداد غير الآمنة تعرض القوات المسلحة الأمريكية لـ”خطر جسيم” من القرصنة والتخريب عالى التقنية على سبيل المثال يمكن إحداث ذلك بإدراج برامج ضارة أو مكونات مصممة لإفشال مهام قتالية.
وتشير الدراسة التى أجرتها جماعة “ميتر” البحثية لصالح وزارة الدفاع الأمريكية إلى أن الطائرات المقاتلة الحديثة قد تعتمد على 10 ملايين سطر من كود البرنامج، لذلك من المهم أن تستخدم شركات التكنولوجيا رمزاً لمصدر غير معروف لتجنب الاختراق.
أنشأ قادة البنتاجون مكتباً جديداً للتحليل التجارى والاقتصادى تتمثل مهمته فى استنباط العقود الدفاعية للشركات الصينية، وصولاً إلى الموردين من الدرجة الثالثة.
ويوضح جيمس مولفينون، خبير فى الأمن السيبرانى الصينى، أن البنتاجون قرر أن أشباه الموصلات هى التلة التى يرغبون فى الموت عليها لأن سيطرة الصين عليها أمر خطير للغاية.
وتعتبر أشباه الموصلات هى آخر صناعة تتقدم فيها الولايات المتحدة الأمريكية، وهى الصناعة التى بُنى عليها كل شئ آخر ولا يزال المزيد من عقود الدفاع عالية القيمة تذهب إلى مسابك أشباه الموصلات فى أمريكا.
وأجاب آندال شريفر مساعد وزير الدفاع للشئون الأمنية فى منطقة المحيط الهادئ والمحيط الهندى ومتخصص فى الشأن الصينى على سؤال حول ما إذا كان البنتاجون سيضغط على الشركات الأمريكية لمغادرة الصين بأنه يمكن للشركات أن تفعل ما تراه فى مصلحتها لكن على الولايات المتحدة أن تكون أكثر وعياً وحرصاً على معالجة نقاط الضعف فى سلسلة التوريد الدفاعية لديها.
ولقد تجاوزت دوائر واشنطن الرسمية السؤال عما إذا كانت الصين شريكة أم منافسة فالنقاش الوحيد يتعلق بحجم طموحات الصين التى باتت مؤهلة كما يراها البعض لتتبوأ مكانها الصحيح وهو أقوى بلد فى العالم.
ويبدو أن بعض المعينين السياسيين فى وزارة الخارجية حريصون على إعلان أن صدام الحضارات بين الشرق والغرب مستمر ففى 29 إبريل الماضى صرحت مديرة تخطيط السياسة بوزارة الخارجية، كيرون سكينر فى منتدى استضافته مؤسسة نيو أمريكا وهى مركز أبحاث فى واشنطن، بأن هناك حاجة لاستراتيجية خاصة بالصين مثل استراتيجية احتواء جورج كينان للاتحاد السوفيتى.
وقال تحليل مجلة “إيكونوميست” إنه بالنسبة لفكرة احتواء واحد من أكبر اقتصادين فى العالم، فإن هذا سيكون هراء حتى لو كان الحلفاء الأمريكيون وبلدان أخرى على استعداد للمساعدة وهو ما لم يفعلوه.
وتوجد أصوات أكثر حذراً يمثلها مقال نشره معهد “بولسون” لإيفان فيجنباوم مساعد شئون آسيا فى إدارة الرئيس جورج بوش الإبن يقول إن أولئك الذين يتهمون الصين بإعادة تشكيل النظام العالمى يسيئون فهم التحدى وتقديره.
وأوضح أن الصين تخضع لمراجعة انتقائية فبدلاً من السعى لاستبدال النظام الدولى الحالى فإنها تدعم العديد من “أشكال” تعددية الأقطاب بينما تقوض المسلمات المتعارف عليها داخل الأمم المتحدة وغيرها من الهيئات الدولية.
ويأتى صوت عاقل من مكتب بلا نوافذ فى أعماق الكونجرس، عندما يحث كونز الكونجرس على محاولة العمل الجاد فى التعامل مع الصين كما هى، وليس كما ترغب أمريكا، رغم تصرفها بشكل سئ للغاية على الساحة الاقتصادية العالمية.