أفريقيا قارة ريفية، هكذا يراها كبار المسئولين الغربيين، وقال تيبور ناجى، كبير الدبلوماسيين الأمريكيين المبعوثين إلى القارة، إن أفريقيا “مجتمع زراعى فى الأغلب”، وهو ليس الوحيد فى ذلك، فإن أحدث خطط ألمانيا تجاه القارة تصر على أن “المناطق الريفية سوف تحدد مستقبل أفريقيا”.
ولكن هذا خطأ بل وخطأ خطير، فأفريقيا تتحضر بشكل متزايد ومستقبلها لن يتشكل فى المناطق الهادئة النائية، ولكن فى المناطق الكثيفة بالسكان الحيوية مثل لاجوس وأديس أبابا وكينشاسا، وسوف تصبح المدن الكبيرة محرك القارة وهو ما يحمل تداعيات تتعلق باحتياجات الطاقة والأمن والحوكمة والخدمات العامة فى المستقبل، وكذلك ما يتضمنه ذلك من مخاطر إذا لم يتم إدارة النمو الحضرى.
وبالطبع، كانت المدن فى الألفية الجديدة محل النشاط الاقتصادى وخلق الثروة والوظائف، وتبلغ الطبقة الاستهلاكية الأفريقية حالياً أكثر من 300 مليون نسمة وتتركز بحدة فى عدد من العواصم الكبيرة مثل القاهرة وجوهانسبرج وكينشاسا ولاجوس ولواندا.
ويقدر بنك التنمية الأفريقى، أن حوالى 12 مليون شاب أفريقى ينهون الدراسة ويلتحقون بسوق العمل سنوياً، وتتركز أغلب الوظائف الأكثر جاذبية وجيدة الأجر وعالية الإنتاجية بقطاعات مثل المالى وتكنولوجيا المعلومات والفنون الإبداعية ومعالجة البيانات والتصنيع فى المجتمعات كثيفة السكان.
ولكن بالطبع التحضر له عيوب خطيرة، ففى المتوسط، يعيش 60% من ساكنى المدن الأفريقية فى عشوائيات، وبالتالى يعانون من نسب متفاوتة من الأمراض المعدية وغير المعدية، وينتشر الإيدز بنسب أعلى بين سكان الحضر مقارنة بالريفيين، كما ترتفع معدلات السمنة المفرطة.
ويعتمد مسار أفريقيا للانضمام للاقتصاد العالمى على نجاح أو فشل مدنها وليس مجتمعاتها الريفية، ورغم محاولات الصحافة لزيادة جاذبية القطاع الزراعى، فإن الزراعة تقدم آفاق وظيفية ضعيفة، خاصة للشباب والمتعلمين، وبالمثل، ركزت موجة من المنح الجديدة على تركيب أنظمة طاقة شمسية صغيرة للمنازل فى المناطق الريفية، وهذا يمكن أن يقدم أضواء قليلة للأسر الفقيرة النائية، ولكنه لا يناسب احتياجات أنماط الحياة فى المدن ولا يفيد القطاعين الصناعى والتجارى الذين يخلقون الوظائف.
واستناداً إلى ذلك، من الصادم أن المجهودات الغربية لمساعدة القارة تواصل التركيز على هيكل ريفى عفا عليه الزمن، ويتعين عليهم الآن إعادة توجيه مجهوداتهم إلى المدن.
واﻵن، كيف يمكن أن تغير الولايات المتحدة وحلفائها نهجهم لمواجهة التحديات التى سوف تفرضها المناطق الحضرية المتنامية فى أفريقيا؟ فيما يلى 4 طرق جيدة يمكن البدء بهم:
الأول، يتعين على الاستثمارات الأمريكية التوجه بحدة نحو المجتمعات الحضرية الرئيسية بدلاً من الدولة ككل، ويمكن أن تخصص الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية “يو إس آيد” المزيد من الأموال للتعامل مع مشكلات النمو الحضرى، وسوف يكون لدى مؤسسة تمويل التنمية الأمريكية الجديدة، التى أطلقتها حكومة الرئيس دونالد ترامب، المزيد من الأدوات لدعم الاستثمارات فى البنية التحتية الحضرية والتكنولوجيا والخدمات، ويمكن أن تنظم مبادرات المدن الذكية لتسريع الشراكة بين المدن الأفريقية وشركات التكنولوجيا الأمريكية بمجالات مثل الأمن والمرور والمياه وخدمات الطاقة وغيرها.
ثانياً، يمكن أن تعزز الولايات المتحدة الانخراط الدبلوماسى مع قادة البلديات، ويمكن أن تطور السفارات الأمريكية علاقات أوثق مع المحافظين والعُمَد، وأيضاً يمكن أن يستضيف الأمريكيون المتميزين منهم فى واشنطن وكذلك يزورون المجمعات البلدية الأفريقية خلال رحلاتهم.
وفى فبراير 2019، استضاف عمدة باريس نظرائه من كيب تاون وديربان بجنوب أفريقيا، وغيرها من المدن الدولية التى تقودها النساء لمناقشة تحديات التغير المناخى.
وثالثاً، يتعين على مبادرة “باور أفريكا”، التى تضم عدة وكالات حكومية أمريكية وتستهدف إنارة أفريقيا وأطلقت فى 2013، أن تجعل توفير الطاقة على نطاق واسع للمدن الكبيرة أولوية، وتعد كل المناطق الحضرية الناجحة كثيفة الاستهلاك للطاقة فى حين أن تكلفة الطاقة واستمرارية الحصول عليها أكبر العوائق أمام خلق الوظائف.
وبالطبع من الأهمية بمكان أن نوصل الكهرباء إلى المجتمعات التى لم تحصل عليها قط، وسوف يكون هناك حاجة للزراعة كثيفة الاستهلاك للطاقة لإنتاج الغذاء لجميع القاطنين الجدد بالمدن، ولكن فى العديد من المناطق، جاءت إنارة الريف على حساب متسهلكى الطاقة من القطاعين الصناعى والتجارى الذين يعتبرون مراسى أنظمة الطاقة الحديثة وشريان الحياة للمدن الكبرى الصاعدة.
وأخيراً، يتعين على الولايات المتحدة زيادة الأموال والتدريبات التى تخصصها لقوات الشرطة الأفريقية وليس فقط الجيوش، ووفقاً لمؤسسة “سيكيورتى أسيستانت مونيتور”، تلقت الشرطة أقل من 2% من المساعدات الأمريكية لخدمات الأمن فى أفريقيا جنوب الصحراء.
ولا تعد المساعدات الأمريكية وغيرها من المساعدات من الدول الغربية للنمو الاقتصادى والأمن الأفريقى مجرد منح لدول فقيرة، بل إنها تخلق أسواق جديدة للشركات ويمكن أن تكون مكون حيوى للأمن الوطنى فى عصر الإرهاب العالمى، ولكن حتى الآن لا تتماشى السياسة الأمريكية تجاه أفريقيا مع مستقبل القارة، ويجب أن تتخلص واشنطن من الأفكار القديمة بأن أفريقيا تتكون من قرى زراعية وصحراء خالية، وتتبع البيانات التى تظهر أن القارة تصبح متمدنة وأكثر ديناميكية وأكثر استهلاكاً للطاقة.
بقلم: جود ديفرمونت، مدير البرنامج الأفريقى بمركز الأبحاث الاستراتيجية والدولية
إعداد: رحمة عبدالعزيز
المصدر: وكالة أنباء “بلومبرج”