الحكومة تطلب من الدائنين مد آجال استحقاق 101 مليار دولار ديونا خارجية
خيار صعب بعد هزيمة “ماكري” بين تسليم 5.4 مليار دولار أو انتظار الرئيس القادم
استطلاع للرأي: 56% من الأرجنتينيين لديهم مشاعر كراهية تجاه الصندوق
وكالة”إنديك”: التضخم السنوي في البلاد وصل إلى 54.3% يوليو الماضي
استغرق قرار السعي للحصول على ما أصبح أكبر خطة إنقاذ في تاريخ صندوق النقد الدولي، بضع دقائق فقط.. لكن هذه الخطة أصبحت تشكل الآن عبئا ثقيلا على البلاد.
فبعد مرور 15 شهرا، أصبحت خطة الإنقاذ العملاقة عبئا ثقيلا على الرئيس اﻷرجنتيني ماورويسيو ماكري، الذي واجه هزيمة ساحقة في الانتخابات الرئاسية التمهيدية في 11 أغسطس الماضي، على أيدي الناخبين اﻷرجنتينين الغاضبين من الركود المستمر.
ونتيجة لذلك، شعر المستثمرون بالذعر الشديد وعانت أسواق المال من اضطرابات شديدة. فهذه الانتخابات، التي تعتبر مؤشرا موثوقا بالنسبة للانتخابات الرئاسية في أكتوبر المقبل، تبنئ بكارثة بالنسبة لفرص فوز ماكري مرة أخرى.
وبعد أيام من الاضطرابات السوقية، استسلمت حكومة ماكري في الأسبوع الماضي ﻷمر لا مفر منه، وطلبت من دائنيها مد أجل استحقاق ما يصل إلى 101 مليار دولار من الديون الخارجية للبلاد، بما في ذلك شرائح صندوق النقد الدولي المصروفة بالفعل.
جاء ذلك في ظل مكافحة البلاد لتفادي التخلف عن سداد ديونها السيادية للمرة التاسعة في تاريخها وللمرة الثالثة على مدار القرن الحالي.
وأوضحت صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية، أن الأرجنتين أعلنت فرض قيود على الصرف بالعملات اﻷجنبية يوم الأحد الماضي، بعد خسارتها ما يقدر بنحو 3 مليارات دولار من احتياطياتها اﻷجنبية في يومين فقط خلال الأسبوع الماضي.
وقال بنجامين جيدان، من مركز ويلسون بواشنطن، إن صندوق النقد الدولي يواجه هزيمة أخرى في الأرجنتين، بعد أن شعر بحماس كبير يماثل الحماس الذي شعر به المستثمرون تجاه اقتصاد البلاد.
فمع خروج خطة الإنقاذ عن مسارها الصحيح، أثيرت العديد من الأسئلة حول سبب قيام صندوق النقد الدولي، الذي أشرف على 21 خطة إنقاذ للأرجنتين، بإقراض الكثير من الأموال لدعم برنامج آخذ في الانهيار بعد مرور أكثر من عام بقليل.
وبعد أن صرف بالفعل 44 مليار دولار من قيمة خطة الإنقاذ إلى بوينس آيرس، يواجه صندوق النقد الآن خيارا صعبا، يدور حول ما إذا كان يجب التمسك بالبرنامج وتسليم حكومة ماكري شريحة أخرى بقيمة 5.4 مليار دولار خلال سبتمبر الحالي، أو خفض خسائره والانتظار للتعامل مع الرئيس اﻷرجنتيني القادم.
وقال صندوق النقد، في بيان صدر عنه بعد زيارة مسئولي الصندوق للأرجنتين، الأسبوع الماضي، إنه كان يقيم تأثير التدابير المقترحة لإعادة جدولة الديون، ولكنه سيواصل الوقوف بجانب الأرجنتين خلال هذه الأوقات الصعبة.

وفي الوقت نفسه، قالت كريستين لاجارد، التي استقالت من منصبها كمدير عام لصندوق النقد الدولي من أجل الترشح لقيادة البنك المركزي الأوروبي، إن قرار صندوق النقد بشأن مستقبل خطة الإنقاذ سيُتخذ دون وجود الشخص الذي لعب دورا فعالا في الفوز بخطة الإنقاذ.
وأوضحت لاجارد، في حوار أجرته مع الصحيفة البريطانية في يوليو الماضي، إن صندوق النقد الدولي كان الجهة الوحيدة المتواجدة من أجل اﻷرجنتين، فلم يكن هناك أي شخص آخر في ذلك الوقت للاستثمار في عملية الإصلاح التي قررت الحكومة الانخراط بها، مشيرة إلى الصندوق كان عليه تقديم حزمة إنقاذ كبير بالنظر إلى حجم التحدي الذي تواجهه البلاد.
وعانت اﻷرجنتين في آخر 70 عاما من تاريخها من أزمات اقتصادية منتظمة. ولم يكن تنصيب ماكري رئيسا للبلاد في ديسمبر 2015 مختلفا عن سابقه.
فقد أفرغت سلفته كريستينا فرنانديز دي كيرشنر، خزائن الحكومة بإقرارها زيادة الإنفاق بمقدار 27 مليار دولار في أيامها الأخيرة في السلطة، واقترب معدل التضخم في عهدها من 25% وانخفضت الاحتياطيات اﻷجنبية بشكل كبير؟. كما أنها استنزفت الإعانات المالية السخية للمرافق العامة والنقل موازنة الدولة.
وبالنسبة لماكري، فقد بدا الرئيس الجديد وكأنه مجهز بشكل جيد لمواجهة التحدي، إذ أظهر صورة تتسم بالكفاءة الرائعة والدهاء التجاري والواقعية المتزنة، والتي أشعرت المستثمرين بالارتياح بعد الشعبوية الفوضوية لـ”فرنانديز”.

وقال ماكري، في حوار أجراه مع “فاينانشيال تايمز” في سبتمبر 2016 عندما سُئل عن برنامجه الاقتصادي: “أعتقد أننا تعلمنا أخيرا من أخطائنا”، مشيرا إلى أنه ليس هناك أي بلد آخر في العالم يمتلك نفس الاتجاه الصعودي الذي تمتلكه اﻷرجنتين.
كان ماكري، حريصا على تجنب اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، إذا أمكن، حال أجبر للبحث عن مساعدة، خصوصا أن الصندوق يشكل عبئا دائما بالنسبة لقادة الأرجنتين.
ويعود تاريخ بوينس آيرس المضطرب مع صندوق النقد، إلى ستة عقود زمنية، أكثرها شهرة هو الانهيار الاقتصادي في عام 2001، والذي انتهى بما كان آنذاك أكبر عجز في سداد الديون في التاريخ والسحب غير الاعتيادي للوداع واضطرابات مدنية واسعة النطاق، كما أن رئيس البلاد هرب بطائرة هليكوبتر من سطح القصر الرئاسي.
ومع ذلك، لا تزال اﻷوجاع باقية حتى بعد مرور جيل تقريبا، إذ أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز ويلسون العام الماضي أن 56% من الأرجنتينيين لديهم مشاعر كراهية تجاه صندوق النقد، لتحصل المنظمة على التصنيف الأسوأ بالنسبة لأي منظمة دولية أخرى شملها الاستطلاع.
وشبه جيدان، من مركز ويلسون، صندوق النقد بشخصية “ليكس لوثر” العدو اللدود للبطل الخارق “سوبر مان”. فعندما تتجه المنظمة الدولية للأرجنتين، فإنها عادة ما تترك خلفها انخفاضات وحشية في الموازنة وفوضى اقتصادية.
لذا اختار ماكري، اتباع نهج تدريجي لإصلاح الفوضى الاقتصادية التي خلفتها الرئيسة السابقة فرنانديز، على أمل تجنب الإجراءات التقشفية وأي أزمة سياسية أخرى قد تنتج عن صندوق النقد الدولي، كما أنه تجنب اللجوء إلى تخفيضات كبيرة في الإنفاق العام، وكان يأمل في أن يؤدي النمو المطرد واستعادة البلاد لقدرتها على الاقتراض الدولي إلى انتشال الاقتصاد من أزماته.
كانت الخطة تبدو وكأنها تسير بشكل جيد لبضع أعوام، ولكن أوجه العجز المالي الكبيرة كانت بحاجة إلى تدفق اﻷموال اﻷجنبية بشكل مستمر لتمويلها. كما أن أسعار الفائدة المرتفعة دفعت قيمة البيزو اﻷرجنتيني للارتفاع، مما يدل على ضرورة اقتراض مزيد من الدولارات لتمويل العجز.
ولكن عندما تسبب فقدان الثقة باﻷسواق، في انهيار العملة المحلية العام الماضي، كان على ماكري اللجوء إلى صندوق النقد الدولي.

وقال المدير السابق لصندوق النقد الدولي كلاوديو لوسر، وقت أزمة الأرجنتين عام 2001، إن الاقتراض المفرط كان المشكلة الرئيسية في البلاد، إذ كانت الحكومة اﻷرجنتينية واثقة من قدرتها على الاستمرار في اقتراض مبالغ كبيرة مع ضبط الاقتصاد، وهذا هو الخطأ الذي وقعوا فيه.
ورغم الخطوات الخاطئة المبكرة، حصل ماكري على حزمة إنقاذ قياسية من صندوق النقد الدولي بسرعة نسبية، كما أن علاقاته الشخصية الجيدة مع الرئيس اﻷمريكي دونالد ترامب، الذي تمتلك بلاده حصة أكبر في مجلس إدارة صندوق النقد الدولي، ساعدت في تمهيد الطريق أمام هذه الحزمة الاقتصادية.
وقالت “فاينانشيال تايمز” إن خطة الإنقاذ الأولية التي قدمها صندوق النقد للأرجنتين في يونيو 2018، بقيمة 50 مليار دولار، كانت أكبر بكثير مما كان متوقعا.
وكانت لاجارد، العضو المنتدب في الصندوق آنذاك، تعتقد أن الأموال ستعزز ثقة الأسواق، ولكن بعد مرور شهرين فقط، فقدت الأسواق الثقة في “البيزو”، وعادت الأرجنتين إلى صندوق النقد مرة أخرى لتعقد مفاوضات جديدة.
وأوضح مسئولون وخبراء اقتصاديون سابقون في حكومة ماكري، أن إصرار صندوق النقد على تحرير سعر صرف البيزو اﻷرجنتيني كان واحدا من العيوب الرئيسية في الصفقة الأولى، إذ تسببت هذه الخطوة في موجة جديدة من البيع مع اختبار الأسواق للعملة.
وبعد أسابيع من المفاوضات، أعلنت لاجارد، في سبتمبر الماضي، أن صندوق النقد سيرفع قيمة القرض المقدم للأرجنتين بمقدار 7 مليارات دولار إضافية، لتصل قيمته إلى 57 مليار دولار، كما أن دفعات القرض ستكون معجلة.
كما أعربت عن ثقتها في أن الخطة المنقحة ستكون مفيدة في استعادة ثقة السوق.
وفي هذه المرة، سمح صندوق النقد للسلطات الأرجنتينية بالتدخل بشكل محدود النطاق للدفاع عن البيزو، ولكن القيود المفروضة على وقت ومقدار تلك الخطوة، كان يقع عاتقه بشكل كبير على محافظ البنك المركزي اﻷرجنتيني المستقيل لويس كابوتو.
ورفض صندوق النقد الدولي التعليق على الوضع في اﻷرجنتين بعيدا عن تصريحاته المنشورة، ولكنه أوضح أنه يعمل على مراجعة البرنامج الاقتصادي.
من المفهوم أن المسئولين يعتقدون أن خطة الإنقاذ سارت بشكل كبير وفقا للخطة الموضوعة بصرف النظر عن عنصر التضخم. وقالت مصادر مقربة من الصندوق إن هدف التضخم في بوينس آيرس فشل نظرا لعدم تنسيقه مع استراتيجية حكومية أوسع لإبقاء الأسعار تحت السيطرة، ولأن الآثار التضخمية لخفض قيمة العملة كانت أسوأ من المتوقع، كما أن نهج ماكري التدريجي لكبح الإنفاق كان يعد مشكلة رئيسية.
وقالت وكالة الإحصاء في الأرجنتين “إنديك” إن التضخم السنوي في البلاد وصل إلى 54.3% في يوليو الماضي.
ورغم أن خطة الإنقاذ المعدلة في سبتمبر 2018 ساعدت في تهدئة الأسواق، إلا أنها فشلت في إنعاش الاقتصاد.
وأوضحت الصحيفة أنه في ظل اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية هذا العام، تجاوزت أسعار الفائدة حاجز الـ 70% مما يتسبب في خنق الشركات وارتفاع مستويات البطالة، فضلا عن بقاء معدلات التضخم عند مستويات مرتفعة للغاية.
وأعلن وزير المالية اﻷرجنتيني الجديد هيرنان لاكونز، اﻷسبوع الماضي، عزم الحكومة، إعادة جدولة ديون البلاد، إذ سيطلب من المستثمرين اﻷجانب الموافقة طوعا على مد آجل استحقاق ديون البلاد، وهي خطوة أدت إلى تخفيض وكالة “ستاندرد آند بورز” لتصنيفها الائتماني للأرجنتين يوم الخميس الماضي إلى درجة “تعثر انتقائي”.
وقالت مؤسسة “كابيتال إيكونوميكس” إن العجز عن سداد الديون السيادية الأرجنتينية أصبح أكثر احتمالا الآن، متوقعة خسارة حملة السندات نحو نصف أموالهم في عملية إعادة هيكلة الديون.
وفي الوقت نفسه، أرسل فرنانديز، الرئيس اﻷرجنتيني الجديد المحتمل، إشارات متناقضة حول نواياه تجاه خطة الإنقاذ، وقال إنه سيدفع قيمة قرض صندوق النقد، ولكنه انتقد الصندوق بشدة في الوقت نفسه.
وقال فرنانديز، في بيان أصدره، إن الحكومة وصندوق النقد، اللذين تسببا في الأزمة الحالية، مسئولان عن وضع حد للكارثة الاجتماعية التي يعاني منها نسبة كبيرة من مجتمع اﻷرجنتين.
ويعتقد دانييل ماركس، وزير المالية اﻷرجنتيني السابق، بوجود دافع سياسي في هذه التصريحات، فربما يكون فرنانديز يمهد الطريق أمام المفاوضات القادمة.
ويرغب المستثمرون ورجال الأعمال في رؤية فرنانديز وماكري يعملان سويا لتهدئة الأسواق وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، والحد من حالة عدم اليقين خلال الفترة الانتقالية الطويلة المؤلمة حتى تنصيب الرئيس الجديد في ديسمبر المقبل، ولكن لم تكن هناك أي دلائل على أن أي من المرشحين للرئاسة على استعداد لذلك.
ومن المفارقات أن الخبراء يتفقون على فكرة أن وضع اﻷرجنتين سيكون أفضل لو طلب ماكري مساعدة صندوق النقد منذ البداية.
وقال فيكتور بولمر توماس، الزميل المشارك في معهد “تشاتام هاوس” في لندن، إن اﻷمر كان سيسير على نحو جيد لو توجه ماكري إلى صندوق النقد منذ البداية.
وأوضح أن المشكلة اﻷساسية تكمن في أن التاريخ مروع للغاية للدرجة التي تجعل الحكومات تؤجل اللجوء إلى الصندوق حتى فوات الأوان، وبالتالي يواجه الصندوق وضعا اقتصاديا صعبا يصف خلاله علاجات معتادة تواجه جميعها المصير ذاته وهو الفشل.