أتابع وبشغف برنامج «الجدعان» الذى يقدمه زميلنا الإعلامى محمد غانم على قناة القاهرة والناس.. والذى يستعرض فيه قصص وتجارب ومشاكل الاستثمار الزراعى فى مصر.. وبصراحة يستحق هؤلاء المستثمرون لقب «الجدعان»؛ لأنهم فعلاً مستثمرون بجد، هم الذين يقتحمون الصعاب، ويحفرون فى الصخر، ويحولون الرمال الصفراء إلى جنة خضراء.. هم الذين يعملون تحت حرارة الشمس وبعيداً .
عن مجتمع الرفاهية والبيزنس السريع، هؤلاء هم المستثمرون الذين نحتاجهم، وهذا هو الاستثمار الذى نريده؛ لأن كل محصول تتم زراعته يقلل من قيمة استيرادنا، ويزيد من صادراتنا.
والاستثمار الزراعى لا ينتظر مستثمراً أجنبياً ولا تكنولوجيا متطورة مع أهمية هذا إن كان موجوداً.. ولكن مصر أقدم دول العالم فى الزراعة لا تحتاج لمن يعلم أبناءها الزراعة.. فقط ما نريده أن يعود أبناؤها للزراعة، وأن تشجعهم الدولة للعمل بالزراعة والاستثمار فيها.
انظروا إلى تجارب الشباب والمستثمرين فى النوبارية والبحيرة وقرى شباب الخريجين وغرب المنيا وشرق العوينات والوادى الجديد وكثير من المناطق الصحراوية، استثمار شاق، ومكلف، ولكن الإرادة والعزيمة والإصرار على النجاح هى التى جعلت هؤلاء الجدعان من المستثمرين يكملون فى استثماراتهم ولا يتركونها رغم الروتين والبيروقراطية والمطاردات من الجهات الحكومية تحت زعم تقنين الأوضاع أو غيرها من المعوقات التى تتفنن الجهات الحكومية فى اختراعها لإرهاق المستثمرين.
كيف لدولة أن تجد أرضاً مزروعة وتأتى ببلدوزرات الحكومة تقتلع أشجاراً أخذت من زارعيها، كثير من الجهد والعرق والمال حتى تظهر هذه الشجرة فى صحراء جرداء.؟
الكهرباء عذاب المستثمرين الزراعيين سواء فى الإجراءات أو الرسوم وكذلك المياه.. فعلاً يستحق كل من يعمل فى الاستثمار الزراعى أن نرفع له القبعة، فهؤلاء يتركون بيوتهم وأسرهم ليعيشوا فى ظروف معيشية صعبة فى الصحراء لا غرف مكيفة أو هناجر ومظلات وعنابر ؛ هم الذين لا يضغطون على أزرار لتعمل الآلات فى ثوانٍ وتأتى بإنتاج بل كل يوم هو عمل لهم حتى يحصدوا إنتاجهم بعد شهور، وأحياناً سنوات.
هؤلاء المستثمرون هم من يحتاجون الدعم والمساندة من الدولة وأجهزتها، هؤلاء يجب أن نيسر لهم الإجراءات فى الحصول على أراضٍ وتيسير التمويل لهم وتقديم خدمات الإرشاد الزراعى والمائى له بدلاً من مطاردتهم بالإجراءات والرسوم.
نحن فى أحوج ما نكون لأن نزرع هذه المساحات الشاسعة من الصحراء إذا كنا نريد أن نكون دولة اقتصادية قوية تملك غذاءها كما تملك سلاحها.
لقد انتهى زمن المعونات الخارجية بعد أن تكشفت أهدافها.. ومصر ترفض أن تكون دولة متلقية للمعونات، مصر تريد أن تكون دولة قوية ليست تابعة لأحد، وهذا لن يتم إلا إذا كان غذاؤنا من زرع يدنا.. الأجنبى لن يقدم لنا الغذاء دون مقابل.. الزراعة هى الحياة، هى الماضى والحاضر والمستقبل، لا يجب أن نقلل من العاملين فيها، يجب أن نحفز أبناءنا على الدراسة بكليات الزراعة التى هجرها الطلاب؛ بسبب قلة الوظائف ليأخذ الخريجون مساحات من الأراضى فإذا لم يحصل خريجو الزراعة على أرض فمن الذى يحصل؟.. تجار الأراضى.. هل سنظل نزرع الخرسانات فى الصحارى بدلاً من زراعتها.. إننا نحتاج الزراعة مثلما نحتاج العقارات.
إن قوة الاقتصاد الحقيقى تأتى من تنوعه.. ونحن نريد أن يكون لدينا فرص حقيقية فى الزراعة وتصدير منتجاتها وتقليل وارداتنا من القمح والفول والزيوت.. لدينا مقومات الزراعة؛ الأرض والمياه والأيدى العاملة، فماذا ينقصنا سوى الإرادة والتحفيز من جانب الدولة.
انظروا كيف زرعت القوات المسلحة آلاف الأفدنة من المزارع والصوب الزراعية فى مدة وجيزة، علينا أن نشجع على الاستثمار الزراعى ونحفز القطاع الخاص على الاستثمار والمشاركة وليس التنافس الضار فيما بيننا.
انظروا إلى دول العالم وكيف تدعم مزارعيها وتضرب بقوانين التجارة الدولية عرض الحائط لتحمى مواطنيها، فلا يعقل فى ظل التطور التكنولوجى والتوسع فى استخدام الميكنة الزراعية وانتشار علوم الهندسة الوراثية فى استنباط أصناف جديدة من البذور والتقاوى ألا تزيد مساحة الأرض المزروعة على 8 ملايين فدان.. أى لم تنمُ سوى بنسبة بسيطة عما كانت فى بداية القرن الـ19 والـ20.
لقد أهملنا محصول القطن فضاعت صناعة الغزل والنسيج.. وأهملنا الزراعة فضاع الريف المصرى المنتج وأصبح مستهلكاً، ومرتعاً للبطالة وطارداً لأبنائه فزاد الفقر فيه.. إننا نحتاج للزراعة حتى يعود زمن الجدعان.
بقلم: حسين عبدربه
رئيس تحرير جريدة البورصة