أشرت فى المقال الأول عن واقعة ضرب منشأتى النفط السعوديتين التابعتين لشركة “أرامكو” (الحادث الثالث من نوعه الذى تتعرض له الشركة على مدار الأشهر الخمسة الماضية) والمُحتكرة تقريباً لسوق البترول، ليس فقط فى السعودية ولكن ربما فى منطقة الخليج بأكملها، أن ما هو مرتبط بها من تداعيات متوقعة سيتحدد بدرجة كبيرة من واقع شبكات المصالح السياسية العالمية وتوازنات القوة الموجودة على الأرض والدور الذى تستهدف بعض الدول لعبه على الصعيد العالمى وفى مقدمتها الولايات المتحدة بالطبع.
ويبدو بالتالى منطقياً، أن الإدارة الأمريكية لم تُخيب توقعات معظم المحللين عقب الحادث مباشرة وخرجت فى غضون ساعات قليلة لتشير بأصابع الاتهام صراحة إلى طهران التى أصبحت بالنسبة لترامب وحكومته ما يسمونه فى الفم الشعبى الأمريكى “المتهمون المعتادون” Usual Suspects أو الأطراف التى تلعب دور كبش الفداء لكل ما يحدث وقد رأينا ذلك من قبل مرات عدة، كانت أخرها حادثة تفجير ناقلتى نفط فى مضيق هرمز، هذا بالرغم من أن حادثة “أرامكو” بالذات وبعكس ضرب الناقلتين كان هناك من أعلن بوضوح عن مسئوليته بشأنها ألا وهى جماعة “أنصار الله” الحوثية التى تعتبر نفسها ممثلة للحوثيين كافة وترى فى المملكة العربية السعودية عدو غاشم يعتدى على أراضيهم ويتدخل فى صراعهم مع النخب السياسية والعسكرية التقليدية فى اليمن.
وعلى تشككى فى النوايا السياسية الأمريكية من كيل كافة وجميع الاتهامات المعقولة وغير المعقولة، الممكنة وغير الممكنة، المنطقية وغير المنطقية ناحية إيران، إلا أنه لا يمكن فى الوقت نفسه إنكار أن فكرة قيام الجماعات المذكورة بهذا العمل بمفردها ودون دعم إيرانى – على الأقل دعماً لوجيستياً وغالباً عسكرى مباشر – تبدو مستبعدة إلى حد كبير لأننا نتحدث هنا عن معدات متقدمة بدرجة كبيرة حيث تم الهجوم بطائرات دون طيار قادرة على قطع مسافات طويلة ومن غير المرجح أن تكون “أنصار الله” قد اشترت مثل هذه الطائرات من سوق السلاح العالمية المفتوحة.
ومن ثم لا يأتى افتراض وجود دور إيرانى فى الأمر من باب العبث ولكنها فى حقيقتها فكرة منطقية للغاية بالنظر إلى الصراع المحتدم الدائر منذ سنوات بينها وبين السعودية على مركز الزعامة فى الجزء الأكبر لجنوب غرب آسيا من البحر الأبيض المتوسط إلى الهضبة الإيرانية باستثناء منطقة الأناضول التى تخضع للسيطرة التركية ولن تسمح حكومة أنقرة بأى نوع من أنواع العبث بها مهما كان الثمن.
وعليه نجد أن الاحتياج المتزايد من جانب المملكة العربية السعودية لدعم واشنطن وحمايتها وإنما يصب مباشرة فى وعاء المصالح الأمريكية المتشعبة فى المنطقة، حيث أصبح لتكثيف تواجدها السياسى والعسكرى شرعية ما مٌستمدة من حاجة منطقة الخليج لحائط صد ضد أى اعتداءات إيرانية مُحتملة، هذا بالطبع إن افترضنا صحة ما توجهه الولايات المتحدة من اتهامات للجمهورية الإسلامية وهى كما سبق وأن ذكرت ربما لا تكون كلها صحيحة ولكنها بكل تأكيد ليست جميعها كذب وافتراء أيضاً.
ولمح البيت الأبيض بالفعل إلى استعداده لمواجهة أى نقص فى المعروض العالمى بالسحب من مخزونها الاحتياطى والذى هو بمثابة البعل المقدس فى السياسة النفطية الأمريكية ألذى لا يجرؤ أحد على المساس به إلا فى حالات الطوارئ القصوى وهو ما يبين لنا مدى الجدية التى يأخذ بها المكتب البيضاوى الأمر وفيما يعد أيضاً إشارة إلى أن الإدارة الأمريكية لن تتوانى عن الذهاب إلى أبعد مدى فى إدارة صراعها مع إيران حتى لو تطلب الأمر إلحاق بعض الضرر بالاقتصاد الأمريكى نفسه فى وقت لم يحرك أحد من القائمين عليه ساكناً عندما وصل سعر البرميل من خام برنت إلى حوالى 118 دولار فى منتصف عام 2015 تقريباً، بل اكتفوا بالجلوس فى مقاعد المتفرجين الوثيرة حينها بمعنى أن المسألة اليوم سياسية فى المقام الأول وليست اقتصادية.
ولكن السؤال ألذى يطرح نفسه فعلياً فى هذا الإطار هو: هل تلك النوعية من الهجمات هى سقف الحوثيين وربما إيران من ورائهم أم أنهم يمكنهم الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك وتهديد السعودية بشكل واضح؟ رد الفعل الأوروبى الذى يتراوح ما بين هادئ ومتزن إلى غير موجود أساساً وأيضاً حالة الاسترخاء الشديدة من جانب معظم الدول العربية بما فى ذلك أقرب حلفاء السعودية يوحى بأنه لن تكون هناك مواجهة مباشرة أو صراع مسلح واسع النطاق بين أى من الأطراف الرئيسية ولا الأطراف المرتبطة (إسرائيل مثلاً) وإن نفس من كانوا يسمعون طبول الحرب تدق وقت تفجير الناقلتين سيخطئون هذه المرة أيضاً.
بقلم: محمد شيرين الهوارى
الخبير فى الاقتصاد السياسى