تعرضت فى المقال السابق للملابسات السياسية والسياسية الاقتصادية لحادثة ضرب منشأتين من المنشآت النفطية لشركة “أرامكو” السعودية على يد جماعات حوثية ربما تكون مدعومة من إيران بدرجة ما، ولكن الأمر فى الحقيقة أكبر بكثير من مجرد الكلام السياسى المنمق الذى قد يعبر عن أمور غاية فى الأهمية، ولكنه ربما يتغافل عن واقع اقتصادى شديد التعقيد، خاصة فى ظل الدور الرئيسى الذى تلعبه إدارة دونالد ترامب والذى أثبت مراراً وتكراراً منذ أن دخل المكتب البيضاوى أن قراراته غير المدروسة جيداً (أو غير المدروسة أصلاً)، والتى غالباً ما تصدر على خلفية شعبوية بحتة دون أن تستند إلى منطق اقتصادى حقيقى، قد يكون لها آثار اقتصادية عكسية ومدمرة تضر بالاقتصاد الأمريكى حتى قبل أن تؤذى اقتصادات الدول الأخرى.
وكنت قد ذكرت فى المقال الثانى لسلسلة المقالات هذه أن البيت الأبيض أبدى استعداده لتوظيف الاحتياطى النفطى الأمريكى إذا تطلب الأمر ذلك من أجل الحفاظ على استقرار أسواق البترول العالمية، وهذا قد يأتى بدرجة ما مطمئناً للشركات العملاقة متعددة الجنسيات وكبار التجار، خاصة بالنسبة للمعاملات الآجلة Futures، والتى لا أعتقد أنها ستتأثر كثيراً بعكس الأسعار الفورية Spot Prices.د
وتتزامن هذه الأحداث مع الإقصاء المفاجئ لوزير الطاقة السعودى الأسبق خالد الفالح من منصبه وتعيين الأمير عبدالعزيز بن سلمان، الأخ غير الشقيق للعاهل السعودى محمد بن سلمان، بدلاً منه، وبالرغم من أن هذا يأتى من قبيل المصادفة بالطبع، إلا أن ما حدث سيعفى المملكة بالتأكيد – ولو مؤقتاً – من الالتزام باتفاقية تخفيض سقف الإنتاج بين أعضاء “أوبك” وبعض الدول الأخرى، فى مقدمتهم روسيا وهو الاتفاق الذى كان الفالح ينظر إليه على أنه أبيه الروحى وشدد مراراً وتكراراً على أهمية تمديده إلى أقصى حد ممكن، بينما كان محمد بن سلمان لا يشعر بالضرورة بالارتياح تجاهه وإن كان لم يقف ضده علانية لتجنب إغضاب شركاءه الأمريكيين الذين يحتاج إليهم لضمان أمن الخليج كما تفهمه السعودية.
ظنى أن ما هو أخطر على البترول من مجرد نقص بسيط فى الإمدادات – ومن غير المرجح أن يتعدى الأمر “النقص البسيط” – أن تقوم الولايات المتحدة بالصرف من مخزونها الاستراتيجى، حيث رأينا فى الأسابيع القليلة الماضية كيف يمكن لمجرد أن تكون كميات المخزون أقل من المتوقع فى فترة من الفترات أن يزيد سعر برميل برنت بدولارين أو 3 دولارات، فما بالنا أن تقوم الحكومة الأمريكية بالسحب منه على الملأ لسد فجوة فى الإمدادات ستقدر بعدة ملايين من البراميل يومياً لمجرد قطع الطريق على روسيا لاستغلال الموقف – وهو ما ستحاول موسكو فعله بكل تأكيد – وعدم إحراج نفسها، لأن العقوبات المفروضة منها على إيران قد تُفاقم الأزمة.
ويعنى ما سبق أنه لو افترضنا صحة الاتهامات الأمريكية وأن إيران تقف بالفعل وراء هذه الحرب غير المٌعلنة على “أرامكو”، فأنها حتى هذه اللحظة تكون قد نجحت فى الوصول إلى مآربها بدرجة كبيرة وتمكنت من وضع الولايات المتحدة فى موقف لا تُحسد عليه فى وقت خسرت فيه واشنطن تعاطف الغالبية العظمى من شركائها الأوروبيين بسبب الطبيعة الحمائية لسياسات ترامب التجارية وما ارتبط بإعادة العقوبات على إيران من خسائر للعديد من الشركات الأوروبية.
ولم يتبق لواشنطن أصدقاء فى القارة العجوز سوى بريطانيا، ولكن تلك المملكة التى لم تكن تغرب عنها الشمس فى الماضى تعانى اليوم من إشكاليات داخلية كبرى على خلفية خروجها المرتقب من الاتحاد الأوروبى، وبالتالى فهى غير قادرة على تقديم الدعم السياسى المطلوب لواشنطن.
صحيح أن إيران لن تخرج بمكاسب ملموسة بدورها، ولكنها على الأقل تكون قد ورطت أمريكا وحليفتها إسرائيل فى جبهات متعددة وليس فقط خط المواجهة مع حزب الله فى لبنان، كما أن اقتراب الشتاء، وبالتالى زيادة مطردة فى الطلب على البترول سيجعل حتى رجل أرعن مثل ترامب يفكر كثيراً قبل أن يتخذ قراراً قد يكون من شأنه ضرب الصناعة الأمريكية فى مقتل أو ترك بيوت المواطنين عُرضة للبرد القارص مع اقتراب الانتخابات الرئاسية.
بشكل عام أرى أنه فى المرحلة الحالية ستكون هناك بعض الخسائر فى أسواق المال العالمية وفى مقدمتها غالباً نيويورك ولندن بالرغم من دورة التيسير النقدى التى يتبعها البنك الفيدرالى الأمريكى حالياً وهروب مجموعة المستثمرين غير المستقرين إلى أسواق الذهب والسلع، ولكن فيما عدا ذلك أعتقد أن الحال سيظل كما هو لحين إشعار آخر.
بقلم: محمد شيرين الهوارى
خبير فى الاقتصاد السياسى