قاد طارق عامر البنك المركزى فى فترة صعبة شهدت أزمة عملة هى الأشد فى 30 عاما ومشكلات اقتصادية كبيرة تطلب حلها دورًا فاعلاً من البنك المركزى.
والآن توشك فترته الأولى فى البنك المركزى البالغة أربع سنوات على الانتهاء قبل نهاية الشهر المقبل بأيام، وهى الفترة التى ذهبت السنوات الثلاث الأخيرة منها فى عملية إصلاح كبيرة للسياسة المالية والنقدية، بينما أمضى السنة الأولى فى عمليات هندسة مالية كان هدفها شراء الوقت للمحافظة على سعر العملة ومنع الانهيار، فى انتظار الموافقة السياسية على بدء إصلاح اقتصادى مؤلم وغير شعبى.
ورغم الدور الكبير للبنك المركزى فى برنامج الإصلاح الاقتصادى، لكن درجة سوء الأوضاع الاقتصادية عند بدء البرنامج مع صندوق النقد الدولى لم تسمح بمرونة كافية لصناع السياسة الاقتصادية وخاصة البنك المركزى الذى كان التفاهم مع الصندوق عاملا أساسيا فى القرارات التى يتخذها ومنها أسعار الفائدة على سبيل المثال.
لكن البنك المركزى لم يكن خلال السنوات الأربع الماضية مجرد ترس فى آلة الإصلاح، فقد شهدت تلك السنوات أيضا أيضا إطلاق سياسة لتوجيه المزيد من التمويل لقطاع المشروعات الصغيرة، حيث ألزم البنك المركزى البنوك بتخصيص %20 من محافظها الائتمانية لهذا القطاع، كما قطع شوطا كبيرا فى وضع سياسة لتمويل الشركات الناشئة والأفكار الواعدة، وإضافة لذلك شهدت القواعد المنظمة للمدفوعات الإلكترونية والتكنولوجيا المالية طفرة مهمة.
ويقول محللون إن ما قدمه عامر خلال الفترة الأولى له محافظا للبنك المركزى كاف للتجديد له لأربع سنوات مقبلة، خاصة مع عدم وضوح الموقف حتى الآن بشأن هوية المحافظ المقبل للبنك المركزى.
وتعد الفترة التى تولى فيها طارق عامر محافظا للبنك المركزى تاريخية وحساسة كما أنها مليئة بالقرارات والملفات التى تعامل معها البنك المركزى.
ومن أبرز هذة الملفات وأهمها على الإطلاق:
■■ قرار تحرير سعر صرف الجنيه فى نوفمبر 2016: بدأ الإصلاح الاقتصادى فعليا عندما تم تحرير سعر الجنيه ليعبر عن قيمته الحقيقية، وهى الخطوة التى سمحت ببناء احتياطى من النقد الأجنبى فى وقت لاحق بعد استعادة مصادر الدخل الأجنبى للقنوات الرسمية نتيجة توحيد سعر الصرف، وتمت هذه الخطوة بعد عام من تولى عامر منصبه محافظا للبنك المركزى مارس خلاله ضغوطا للسماح بتحرير سعر الصرف والقضاء على السوق السوداء للعملة الصعبة.
■■ بناء احتياطى من النقد الأجنبى: الخطوة التالية المترتبة مباشرة على تحرير سعر الصرف كان الاستفادة من عودة العملات الأجنبية لقنوات الصرف الرسمية، وهو ما استفاد منه البنك المركزى فى مراكمة احتياطيات أجنبية، وبدلاً من بيع العملة الصعبة لدعم الجنيه بات البنك المركزى يشتريها بعد أن أصبحت متاحة فى الأسواق، وارتفعت احتياطيات النقد الأجنبى بحوالى 26.076 مليار دولار على مدار 35 شهراً، لتصل إلى 45.117 مليار دولار بنهاية شهر سبتمبر الماضى مقابل 19.041 مليار دولار فى أكتوبر 2016.
ولعبت الديون الخارجية دورا فى بناء تلك الاحتياطيات لكن بات ينظر إلى تلك الديون على أنها أكثر استدامة، خاصة مع استعادة البلاد لقدرتها على التعامل مع أسواق الدين الدولية والمستثمرين الدوليين فى أسواق الدين المحلى، وهى القدرة التى كانت قد ضعفت بشدة قبل إطلاق البرنامج نتيجة تردى الأوضاع الاقتصادية.
وحصلت مصر على قرض بقيمة 12 مليار دولار بموجب اتفاقية التسهيل الممدد مع صندوق النقد الدولى، إلى جانب حزمة تمويلية عبر الاتفاقيات الثنائية، خلال الثلاث سنوات الماضية.
ومنذ تحرير سعر الصرف وحتى نهاية الربع الثالث من العام المالى الماضى تلقى البنك المركزى تدفقات نقد أجنبية بلغت 150 مليار دولار منها 88 مليار دولار للبنوك خلال عامين.
■■ مواجهة التضخم: لم يتردد البنك المركزى فى استخدام أدواته النقدية لمحاصرة التضخم الناتج عن تحرير العملة، فى مساعٍ مستقلة وموازية للجهود الحكومية التى كانت تركز على توفير تمويل محدود التكلفة للسيطرة على عجز الموازنة.
وأقدم البنك تحت رئاسة عامر على رفع سعر الفائدة نحو %10 أثناء توليه منصبه، رغم الانتقادات التى تتعرض لها هذه السياسة، واستمر فى التشديد النقدى لمواجهة التضخم الذى شهد أعلى مستوياته منذ عقود خلال يوليو الماضى عندما تجاوز حاجز %35 على أساس سنوى.
كما رفع نسبة الاحتياطى الإلزامى التى أقرها على مدخرات البنوك إلى %14 بعد أن كانت %10 وذلك بالتوازى مع بعض الإجراءات المصرفية التى وجه البنوك خاصة بنوك الدولة «الأهلى ومصر» لها للسيطرة على التضخم وأبرزها طرح شهادات الاستثمار العشرينية والتى ساهمت بنسبة كبيرة فى جذب السيولة وتقييد القوى الشرائية.
وساهمت هذه السياسات فى الهبوط بمستويات التضخم العام إلى أدنى مستوى له عند %4.3 فى حين تراجع التضخم الأساسى إلى %2.6 بنهاية سبتمبر الماضى.
أبرز القرارات
بالرغم من أهمية اﻹصلاحات النقدية التى تم إجراؤها خلال الفترة الأولى لطارق عامر فى البنك المركزى، إلا أن مدة عمله لم تكن مكرسة كلها فقط لسعر العملة والملفات المرتبطة بها، فقد شهدت الفترة أيضا إقرار عدد من القواعد التنظيمية، ومحاولات لتوسيع نطاق المتعاملين مع القطاع المصرفى، إضافة لإطلاق سياسة محددة اﻷهداف للتعامل مع تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة.
وأصدر مجلس إدارة البنك المركزى فى ديسمبر 2015 تعريفا موحدا للمشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر، وألزم البنوك مطلع 2016 بتحقيق هدف %20 من محافظها الائتمانية لصالح القطاع خلال أربع سنوات، مع إعطاء حوافز ﻹقراضه بتكلفة منخفضه تبلغ %5 لمعظم الشركات.
وأصدر البنك المركزى أيضا تعليمات «التركز الائتمانى» للبنوك والتى تلزمها بخفض الحد الأقصى للتوظيف لدى العميل الواحد من %20 إلى %15 من القاعدة الرأسمالية للبنك، وكذلك خفض الحد الأقصى لدى العميل والأطراف المرتبطة من %25 إلى %20 من القاعدة الرأسمالية للبنك، لدعم سلامة القطاع المصرفى، وألحق ذلك بقرار رفع الوزن الترجيحى للمخاطر فى حال تخطى مديونية أكبر 50 عميلا %50 من المحفظة الائتمانية للبنك إلى %200 وحين تجاوزها %70 يحسب وزن المخاطر %300.
وقنن البنك المركزى حصة استثمارات البنوك فى صناديق الاستثمار النقدية ليقلص قدرة البنك على الاستثمار بها إلى %2.5 فقط من إجمالى الودائع بدلا من %5 فى مجموع الصناديق النقدية التابعة له.

وكان لقرار عدم تجاوز قيمة أقساط العميل الفرد إلى %35 من إجمالى دخله الشهرى أثر كبير على محافظ التجزئة المصرفية خلال الأعوام الماضية وتقييد قدرة العملاء الأفراد على الاقتراض.
وأعلن المركزى فى فبراير 2016 عن تخصيص 5 مليارات جنيه لإعادة إقراض المشروعات الصغيرة والمتوسطة بغرض تمويل الآلات ومعدات الإنتاج لمده 10 أعوام.
كما أصدر البنك المركزى ثلاثة تعديلات على مبادرة تنشيط التمويل العقارى التى تم إطلاقها قبل تولى عامر منصبه وسمح من خلالها لشركات التمويل العقارى بالدخول مباشرة فى التمويل من خلال المبادرة وإضافة شرائح جديدة من العملاء.
وأطلق «عامر» مبادرة لتعزيز الشمول المالى أعلن من خلالها العمل على إصدار الضوابط والتعليمات التى تدعم تحقيق مبادئ الشمول المالى، بهدف زيادة المتعاملين مع القطاع المصرفى وتقليل حجم الاقتصاد غير الرسمى.
وحاول البنك المركزى مساعدة قطاع السياحة المتضرر، من خلال تحييد سعر الفائدة الذى ارتفع بشدة نتيجة التضخم، وأصدر البنك مبادرة لإعادة إحلال وتجديد الفنادق العائمة وأساطيل النقل السياحى وإتاحة 5 مليارات جنيه تعيد البنوك إقراضها بفائدة %10 متناقصة.
وشهد العام الأول لوجود عامر، فى منصبه محاولة فاشلة لفرض تغييرات فى منصب الرئيس التنفيذى فى البنوك، من خلال تحديد 9 سنوات حدًا أقصى لبقاء المسئول التنفيذى اﻷول فى البنك فى منصبه، وهى المعركة التى خاضتها البنوك الخاصة بقوة وربحتها من خلال القضاء، كما فشلت مساعى وضعها ضمن بنود قانون البنك المركزى الجديد الذى انتهى مجلس الوزراء من مناقشته مؤخرًا وأحاله لمجلس النواب تمهيدًا لمناقشته وإقراره.
وخلال العامين الأخيرين للبنك المركزى، كانت خطواته أكثر تحديدًا نحو التوجه لمجتمع لانقدى، وتدعيم ركائز التكنولوجيا المالية عبر تدشين حاضنة الأعمال «فينتك-مصر»، وصندوق تطوير الابتكارات، وتعديل قواعد المدفوعات الالكترونية بما يتناسب مع احتياجات السوق.
كما أنه عمل على معالجة آثار الإصلاح الاقتصادى، عبر التوجه لسياسات نقدية توسعية وخفض أسعار الفائدة الأساسية 550 نقطة أساس، بما يدعم دور البنوك فى الوساطة المالية.
وشهدت السنوات الأخيرة تحركات جادة نحو ميكنة الدين العام، عبر تدشين نظام حفظ وإيداع مركزى، بالتعاون مع البنك الأوروبى لإعادة الإعمار والتنمية والبنك الدولى.
ومؤخرًا كشف النقاب عن ملامح مشروع قانون البنك المركزى الجديد، والذى شمل عدة بنود بشأن شفافية وحوكمة البنوك، ورؤوس الأموال التنظيمية للقطاع المصرفى والبنك المركزى، وآلية التدخل السريع حال تعرض أحد البنوك للتعثر، وشمل فصلاً كاملاً للمدفوعات الإلكترونية وتم إعداد القانون بالتعاون مع مكاتب استشارات قانونية عالمية وكذلك قدم صندوق النقد الدولى مشورات فنية.
لكن مشروع القانون استمر فى تجاهل قطاع الصيرفة الإسلامية والذى سيظل يطبق نفس القواعد التنظيمية للبنوك التقليدية.
قرارات مرتقبة
أعلن البنك المركزى عن استعداده لبيع المصرف المتحد لمستثمر استراتيجى، ونيته الإعلان عن مستشار الصفقة خلال أيام، وكذلك طرح حصة البنك فى البنك العربى الأفريقى الدولى للاكتتاب العام.
من هو طارق عامر؟
عمل محافظ البنك المركزى فى العديد من المناصب القيادية فى القطاع المصرفى سواء على المستوى المصرى أو الأجنبى فعمل «ببنك أوف أمريكا وسيتى بنك بالخارج، وتولى منصب نائب رئيس بنك مصر، ثم تولى رئاسة البنك الأهلى المصرى، وترأس اتحاد البنوك المصرية، وشغل منصب نائب محافظ البنك المركزى المصرى».
يذكر أن عامر، من القيادات المصرفية التى ساهمت فى برنامج الإصلاح المصرفى فى الفترة بين 2004 و2009، ونجح فى تطبيق آلية التعاون بين المركزى المصرى والبنوك الأوروبية ويتمتع بخبرات مصرفية كبيرة.
عامر تولى رئاسة البنك الأهلى المصرى فى الفترة من أبريل 2008 إلى يناير 2013، وشهد البنك خلالها عملية إصلاح ضخمة استخدمت فيها أساليب الهندسة المالية التى يجيدها عامر، وتحول البنك بعدها إلى تحقيق أرباح حقيقية بالمليارات، وأغلقت فجوة مخصصاته الكبيرة وتبنى أساليب عمل عصرية، وتوسع فى السوق رغم أنه صاحب أكبر حصة فى القطاع المصرفى.

واستقال عامر من البنك الأهلى بعد شهر واحد من استقالة فاروق العقدة من منصب محافظ البنك المركزى وتعيين هشام رامز فى منصب المحافظ، وكان «عامر» واحدا من ثلاثة مرشحين لمنصب محافظ البنك المركزى خلفا للعقدة، بالإضافة إلى هشام رامز ومحمد بركات، وتم اختيار «رامز» قبل اختيار رامز.
وقال محلل مالى، بأحد بنوك الاستثمار، إن السيرة الذاتية لعامر مقارنة بجميع الأسماء المطروحة وبدون إضافة خبرته العملية خلال السنوات الماضية وقيادته القطاع المصرفى للخروج من أسوأ أزماته، ترجح كفته على الأسماء المطروحة.
أضاف أنه بداية من توليه عملية هيكلة البنك الأهلى، وتحويله من الخسائر إلى أرباح بالمليارات عبر استخدام أساليب الهندسة المالية، وتدشين أذرع استثمارية، وهو الإجراء الذى اتبعه فيما بعد بنك مصر ومعظم الشركات الحكومية لتحسين وضعها المالى، بجانب استقطاب الكفاءات التى استطاعت فيما بعد قيادة البنك فى واحدة من أصعب الظروف الاقتصادية.
وقالت مصادر بالبنك المركزى لـ«البورصة»، إن المحافظ خلال سنوات وجوده فى البنك المركزى كان مهتمًا برضا موظفى البنك، وقدم نفسه فى صورة كلاسيكية باعتباره المدير القوى والحازم صاحب الكفاءة والكريم فى نفس الوقت، والذى يعطى الفرصة لشباب الموظفين للقيام بأدوار مهمة طالما أنهم يملكون المؤهلات اللازمة.