يكمن في قلب الأزمة الاقتصادية التي تغذي الاحتجاجات الجماعية في لبنان مخطط منظم يشبه مخطط بونزي للاحتيال، ولن يتم حل المشكلة بتغيير الحكومة أو حتى مجلس وزارة مكون من الخبراء أو حتى من خلال ضخ رؤوس أموال من الدول العربية الصديقة، وإنما ستحل من خلال تدابير أصعب من بينها اقتطاع أموال إجباري من أغنى المواطنين في الدولة.
ولعقود، اعتمدت لبنان على التحويلات من الخارج وارتباط الليرة بالدولار لإدارة اقتصادها، وأدى تثبيت الليرة عند 1504.5 ليرة مقابل الدولار منذ 1997 إلى عملة مبالغ في قيمتها مقارنة بإنتاجية الدولة، وهو ما أعطى اللبنانيين مستوى دخل ومستويات معيشة أعلى من أي دولة عربية جارة لها، وهو ما سمح لهم بالإنفاق على السفر والسيارات والملابس والكماليات.
وخلال الأزمة الائتمانية في 2008، شهدت لبنان تدفقات رأسمالية داخلة حادة لاشتهارها كملاذ آمن، وتوقف المغتربون البنانيون عن الثقة في البنوك الأجنبية ونقلوا أموالهم إلى الموطن، وخلقوا فائضاً في ميزان المدفوعات بقيمة 20 مليار دولار في الفترة ما بين 2006 و2010، وتم تبديد هذا الفائض على التطوير العقاري والتبذير الحكومي، ما تسبب في فقاعة يمكن رؤيتها في الأبراج اللامعة الفارغة التي تملأ سماء بيروت.
واعتبارا من 2011، تحول الفائض إلى عجز سنوي متواصل، ولم يعترف بنك لبنان المركزي بعلامات الخطر سوى في 2016، وأطلق البنك المركزي سلسلة عمليات تعرف “بمعاملات الهندسة المالية” والتي يتم من خلالها مقايضة الليرة بدولارات جديدة (قادمة من الخارج ) بأسعار فائدة باهظة تتراوح بين 14% و30%.
وبالتالي تم التعامل مع أغلب الليرة التي يطبعها البنك المركزي كإيرادات، ما أعطى البنوك أرباحاً قياسية رغم الاقتصاد الراكد، وحقق أكبر بنكين في الدولة أكثر من مليار دولار في 2016 من هذه الأرباح الاصطناعية، وكانت المكافآت المدفوعة لكبار المديرين في صورة نقدية حقيقية.
وأخذ أول المودعين الفائدة من المستثمرين الجدد، ولم ينتبه المحللون المحليون أو الأجانب لذلك، رغم أن الآلية كانت مشابهة لما فعله المهاجر الإيطالي بونزي سيء السمعة في بوسطن منذ قرن وسمي مخطط الاحتيال المشبوه نسبة له فيما بعد.
واستفاد جميع الموظفين اللبنانيين من هذا المخطط، وتسبب ارتباط العملة بالدولار في جعل رواتبهم أكبر قيمة من قيمتها في نظام عملة حر.
ونتيجة تأثير المزاحمة (مزاحمة القطاع العام للخاص)، كان الشباب أكبر الخاسرين، وارتفع معدل البطالة بينهم إلى 40% تقريبا، وفي نموذج الحياة اللبناني، يتوقع من الشباب العاطل أن يهاجر ويجد وظيفة في أي مكان آحر ويرسل التحويلات المالية، وعمليا كان ذلك يغذي مخطط بونزي أكثر، ولكن أصبح ذلك أكثر صعوبة مع تقلص فرص العمل بالخارج.
وانشغل أغلب المستثمرين بالمقاييس التقليدية، مثل وصول الدين الحكومي إلى حوالي 90 مليار دولار، وأهملوا حقيقة أن المركزي اللبناني اقترض 110 مليارات دولار من البنوك اللبنانية من أصل 170 مليار دولار كإجمالي الودائع، والآن نصف الودائع الدولارية في البنوك اللبنانية هي مع البنك المركزي والباقي مقوم بالليرة، ويستحيل أن يتمكن المركزي اللبناني من إعادة هذه الأموال.
وفي نفس الوقت، خلقت أسعار الفائدة الهائلة مجموعة من المليونيرات وأصحاب عشرات المليونيرات، ولكن قيم أرصدتهم هي مجرد مدخلات حاسوبية ناتجة عن عائدات مركبة من الفائدة بدون أي استثمارات إنتاجية تحقق عائداً حقيقياً، ونتيجة ارتفاع الودائع اصطناعيا تقلصت السيولة الحقيقية في النظام.
وتصل احتياطيات البنك المركزي الحقيقية بالدولار بجانب ودائع البنوك وأرصدة الأوصياء إلى 40 مليار دولار، بمعنى آخر، يوجد دولار واحد لكل 3 دولارات مستحقة للمودعين، وهذا في الطبيعي لن يشكل مشكلة في النظم المصرفية الكسرية (التي تسمح للبنوك بإقراض جزء من ودائع عملائها)، لكن في حالة لبنان، تعد كل هذه الالتزامات مقومة بالعملة الأجنبية التي لا يستطيع البنك المركزي طباعتها أو توليدها محليا.
والأنباء الجيدة هنا هو أن معظم هذا الدين محلي، وهو ما يجعل الحل بسيط نسبيا: إعادة هيكية على مستوى الوطن من خلال توزيع الخسائر بطريقة متساوية وعادلة، وتخفيض العائدات الوهمية.
ويشكل أقل من 1% من المودعين في لبنان، أي حوالي 24 ألف رصيد، حوالي 30 مليار دولار، ويبلغ متوسط كل حساب 3.5 مليون دولار تقريبا (وإذا افترضنا أن كل مليونير لديه ثلاثة أو أربعة حسابات – وهي ممارسة شائعة في لبنان – فنحن نتحدث عن أكثر من 6 إلى 8 آلاف صاحب حساب).
ولكن مالكي هذه الأرصدة الوهمية ينفقون بعضها في العالم الحقيقي على سيارة بنتلي على سبيل المثال – وهو ما يستنزف احتياطيات المركزي اللبناني – وبالمثل أي لبناني يكسب بالليرة يستهلك أيضا الاحتياطي في البنك المركزي في كل مرة يذهب في رحلة إلى اليونان أو يشتري منتجاً مستورداً.
ولكن، كيف يمكن حل هذه المشكلة؟ يمكن أن يبدأ البنك المركزي بفرض ضوابط رأسمالية على التحويلات الخارجية ويحد من السحب النقدي، وتقوم بعض البنوك بذلك بالفعل، ولكن سيكون الأمر أكثر فاعلية وعدلا إذا جعله المركزي اللبناني إجبارياً على الجميع.
وسوف تقوم الضوابط الرأسمالية فقط بوقف النزيف، أما علاج الجرح سوف يتطلب تدابير أعنف، مثل خفض كل الأرصدة فوق مليون دولار (ومدى الخفض يعتمد على المكان الذي يعد المركزي اللبناني مستعداً للبدء منه: وكلما كان حجم الحساب كبيرًا، يكون الخفض أكبر)، وقد يتطلب ذلك مرسوما وزاريا، وربما حتى موافقة برلمانية، ويمكن أن يطلق عليه المشرعون ضريبة مؤجلة ما سيجعلها مقبولة أكثر سياسيا.
ولن يكون الأمر كارثيا كما يبدو، فاللبناني الذي أودع 10 ملايين دولار من 10 سنوات بفائدة 12%، يمتلك 31 مليون دولار اليوم، وخفض رصيده بمقدار 50% يعني أنه سيمتلك 15.5 مليون دولار، وهو عائد مقبول عند 4.5%.
وقد يلجأ المسئولون اللبنانيون لمحاولة شيء آخر لم تفعله أي دولة من قبل ولكن بالنظر إلى أن مشكلتهم فريدة للغاية يصعب أن يكون هناك حل خلاف خفض الأرصدة الوهمية.
بقلم: دان أزّاي، زميل القيادة المتقدمة في جامعة هارفارد، والرئيس السابق لشركة تابعة لبنك “ستاندرد تشارترد” في لندن.
إعداد: رحمة عبدالعزيز.
المصدر: وكالة أنباء “بلومبرج”.