تحقق الهجرة فوائدة جمة منها نشر الأفكار وفى كثير من الأحيان تكون أفكاراً جيدة وأحياناً بسيطة أيضاً، وانتقلت “كريستينا تالاكو” إلى أستراليا بسبب الزواج هناك، لكن شهاداتها فى القانون الأجنبى لم تسمح لها بممارسة المهنة فبدأت عملها الخاص بعد أن لاحظت أن صديقاتها أحببن وجبة خفيفة عبارة عن كيك بالزبدة تصنع فى بلدها البرازيل.
عادت “كريستينا” إلى البرازيل ودرست كيفية صنع الكعك بكميات كبيرة لم تتمكن من العثور على الماكينة المناسبة فى أستراليا فاستوردتها من البرازيل وبدأت فى بيع ما كان بالنسبة لها خيال رواية وازدهرت الأعمال وهى تصدر الآن تصدر “الكيك” اللذيذ إلى 25 دولة.
فى كل مكان، يعد المهاجرون أكثر ميلاً من المولودين فى البلاد لبدء أعمالهم التجارية الخاصة ومن الواضح أن الأشخاص الذين يستقلون رحلاتهم ويطيرون على بعد آلاف الأميال لبدء حياة جديدة يمكنهم الحصول على كل ما يمكن الوصول إليه.
كما أن العديد من الدول لا تعترف بالمؤهلات الأجنبية، لذلك غالباً ما يصبح المهاجرون رواد أعمال رغم أنوفهم، ووجدت دراسة استقصائية أجريت فى عام 2015 أن أكثر الألقاب شيوعاً لمؤسسى الشركات الجديدة فى إيطاليا هى “هيو” و”تشين” و”سينج”، بينما احتلت الأسماء الروسية المرتبة الرابعة.
ولا يمكن حصر الفائدة للبلد المضيف فى النقدية فقط فشركة تصنيع “الكيك اللذيذ” توظف الأستراليين وتدفع الكثير من الضرائب لكنها أضافت أيضاً وجبة خفيفة جديدة إلى القائمة الأسترالية مما جعل الحياة فى جو من السعادة وأكثر متعة وولد 29% من سكان أستراليا فى الخارج، هذا ضعف النسبة فى الولايات المتحدة التى تعتبر أمة المهاجرين الأكثر شهرة فى العالم.
وحتى عام 1973 وبموجب سياسة تعرف باسم أستراليا البيضاء كانت الهجرة مقيدة إلى حد كبير بالأشخاص من أصل أوروبى، ومنذ ذلك الحين كانت السياسة مغمورة بعنصرية الألوان ومرحبة على نحو غير عادى، ولكنها أيضاً انتقائية بلا رحمة.
ويتم منح المتقدمين للحصول على تأشيرات مستقلة وفقاً للمهارة التى تخضع للقياس من خلال عدة أمور مثل التعليم وخبرة العمل وكفاءة اللغة الإنجليزية والعمر، والعمر المثالى هو 25-32 عاماً، وعندما يكون المهاجرون المحتملون قد أنهوا دراستهم الجامعية وربما على حساب بلد آخر ويكون أمامهم باباً مفتوحاً لكامل حياتهم العملية، يحصل المتقدمون المسجلون لأكبر عدد من النقاط على إقامة دائمة دون الحاجة إلى عرض عمل، ويقول البعض إنه سيكون من الأفضل إعطاء أصحاب العمل صوتاً أكبر، لكن النظام يعمل بشكل جيد بما فيه الكفاية.
وارتفع عدد سكان أستراليا السنوى من المهاجرين الدائمين منذ الثمانينات، من 69 ألف فى الفترة من 1984 إلى 1985 بما فى ذلك 14 ألف لاجئ إلى حوالى 200 ألف من 2011 إلى 2018 بما فى ذلك نحو 20 ألف لاجئ، وبالإضافة إلى ذلك، تضاعف عدد الطلاب الأجانب فى الجامعات الأسترالية إلى 400 ألف طالب بين عامى 2008 و2018 مما يجعل التعليم العالى ثالث أكبر صادرات البلاد.
وتحولت المدن الكبرى الآن إلى مناطق متعددة الأعراق بشكل واضح وفى بانكستاون إحدى ضواحى سيدنى تتنافس المطاعم اللبنانية مع متاجر تحويل الأموال الفيتنامية للحصول على موطئ قدم.
ويتحدث 32 ألف مقيم أكثر من 60 لغة، وجعل تدفق الأدمغة من جميع أنحاء العالم أستراليا أكثر ثراءاً وديناميكية، ومنذ عام 1973 تضاعف عدد سكانها ونما اقتصادها 21 ضعفاً وتمتعت البلاد على مدى 28 عاماً بالنمو الاقتصادى غير المنقطع، وينتقل حوالى ثلثى المهاجرين المهرة إلى أمريكا وبريطانيا وكندا وأستراليا وتعتبر الأخيرة وجهة مرغوبة بشكل استثنائى ويمكنها توظيف مهاجرين استثنائيين.
وعلى الصعيد العالمى، فإن المهاجرين الأكثر مهارة هم الأكثر تنقلاً ويواجهون حواجز أقل لأن المزيد من الأماكن تريدهم كما يسافرون لمسافات أبعد.
وفى حين أن 80% من اللاجئين و50% من المهاجرين ذوى المهارات المتدنية ينتقلون إلى دولة مجاورة، فإن 20% فقط من المهاجرين ذوى المهارات العالية ينتقلون إلى مناطق أخرى ونصفهم يسافرون أكثر من 4 آلاف كيلومتر ويتجمعون فى بعض الوجهات الكبرى، حيث يذهب 3 أرباع المهاجرين المهرة إلى الدول الـ10 الأكثر شعبية، وينتقل حوالى ثلثى المهاجرين إلى 4 فقط: أمريكا وبريطانيا وكندا وأستراليا.
وتتميز هذه الأربعة جميعها بأنها دول غنية وتتحدث الإنجليزية ولديها جامعات من الدرجة الأولى، وهى ميزات حاسمة وتم تأسيس 3 منهم على فكرة أن المهاجرين يمكنهم الذهاب إلى هناك وخلق حياة جديدة.
وبالنسبة لبريطانيا فلديها تاريخ طويل وإن كان متقلباً للتسامح العالمى ويعرف المهاجرون أنهم يستطيعون أن يصبحوا أميركيين أو كنديين أو وأستراليين أو بريطانيين، وقليل منهم يتخيل أنه بإمكانه أن يصبح صينى أو يابانى ويعرفون أنهم لكى يصبحوا ألمان ليس بالأمر السهل أيضاً.
وداخل بلدان المقصد الكبرى، يتجه المهاجرون للعيش فى عدد قليل من المدن الشهيرة فيوجد فى ملبورن أو لوس أنجلوس عدد أكبر من المقيمين فى الخارج، وتبلغ نسبة المولودين فى الخارج فى تورنتو وسيدنى ونيويورك ولندن 46% و45% و38% و38% على التوالى.
وفى هذه المدن، يتجمع الأشخاص الأذكياء من جميع أنحاء العالم ويطلقون الأفكار، فلا يمكن أن يعمل “سيليكون فالى”، وادى التكنولوجيا فى الولايات المتحدة، بدون مهندسين من مكان آخر، وسيفقد القطاع المالى فى لندن قوته دون وجود عدد كبير من إيطاليا والهند.
وأسس المهاجرون أو أطفالهم 45% من أكبر 500 شركة أمريكية بما فى ذلك “أبل” و”جوجل” وغيرها وكان 20% من الفائزين بجوائز نوبل فى العلوم الأمريكية منذ عام 2000 مهاجرين، وساهم المهاجرون المهرة فى تشجيع السكان المحليين ليصبحوا أكثر إنتاجية، حيث تتضمن المشروعات التجارية أو العلمية طواقم عمل كبيرة تزخر بمواهب وخبرات متنوعة.
ويمكن أن يؤدى عدم وجود متخصص واحد فقط إلى تأخير أو إعاقة المشروع بأكمله، وبالاعتماد على مجموعة المواهب العالمية يسهل ملء هذه الفجوات ومتابعة الأفكار الأكبر.
ومن المحتمل أن تتوسع الشركات الناشئة التى تفوز بتأشيرات للموظفين الأجانب فى يانصيب التأشيرة الماهرة فى أمريكا، وفقاً لدراسة أجراها ستيفن ديموك من جامعة “نانيانج التقنية”، وهذا أحد الأسباب وراء قيام الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بالضغط على عدد هذه التأشيرات باعتبارها لا تخلق فرص عمل للأمريكيين، واضطرت الشركات الأمريكية على نقل العمليات المتعطشة للمواهب إلى الخارج وفقاً للباحثة بريتا جلينون من جامعة “كارنيجى ميلون”.
أمريكا وكندا وأستراليا وبريطانيا أولوية للباحثين عن السفر
ويجلب المهاجرون وجهات نظر جديدة بجانب المعرفة بالأسواق الخارجية وقدرتهم على الاتصال وهذا يسرع تدفق المعلومات بين البلدان وفقاً لويليام كير الاستاذ بكلية “هارفارد للأعمال” الذى أشار إلى أن الشركات متعددة الجنسيات التى توظف الكثير من المهاجرين المهرة تجد أنه من الأسهل التعامل مع بلدانهم الأصلية.
وقام سريرامان أناسوامى، وهو مهندس هندى استقر فى أستراليا، بتأسيس شركة استشارية بعدة ملايين من الدولارات لتبادل معلوماته مع الشركات الأسترالية ويساعدهم على الاستفادة من خزان واسع من المواهب فى الهند.
وأراد أحد العملاء، وهى شركة صغيرة لتعلم الآلة توفير 50 من علماء البيانات للمساعدة فى التنبؤ بموعد إصلاح أنابيب المياه واحتاجت شركة اتصالات كبيرة إلى المحللين فى غضون مهلة قصيرة لإنشاء مركز ابتكار يضم 2000 شخص ولا يمكن أن تجد كل تلك الخبرة فى أستراليا، لكن أناسوامى كان قادراً على إيجاد شركاء هنديين لديهم القدرة العقلية اللازمة.
وتعد أكثر الفوائد وضوحاً من الهجرة هى ما يسميه الاقتصاديون مكاسب ثابتة حيث يكسب المهاجرون من البلدان الأكثر فقراً الى الأكثر ثراءً فور وصولهم، ويقول كاجلر أوزدن خبير البنك الدولى إن المكاسب الحقيقية هى المكاسب الديناميكية والتى تعنى التفاعل المعقد بين القادمين الجدد مع السكان الأصليين والعالم الخارجى، مشيراً إلى أن هذا هو ما خلق معجزة الاقتصاد العالمى فى القرنين ونصف القرن الماضيين وهذا ما يفسر أيضاً تحول أستراليا إلى منطقة غنية جداً.
وليس كل الاستراليين سعداء بالهجرة الجماعية فالبعض غير مرتاح لأن بلادهم لم تعد بيضاء تماماً وفى المقابل يأسف الكثير من السكان الأصليين لأن المستوطنين البيض اصبحوا فى الصدارة، لكن معظم التذمرات حول المهاجرين مصاغة بعبارات غير عنصرية.
وأكثر الأمور شيوعاً هى أنه مع زيادة عدد السكان تصبح المدن مزدحمة وتصبح المنازل مرتفعة التكلفة، كما أنهم مصدر قلق آخر من الناحية الجيوسياسية لأن بعض المهاجرين الصينيين قد يكونون عملاء للديكتاتورية فى بكين.
ومع مراعاة هذه المخاوف، خفضت الحكومة الأسترالية المحافظة من الحصص السنوية للمهاجرين الدائمين باستثناء اللاجئين من 190 ألفاً إلى 160 ألف ابتداءً من هذا العام.
ومع ذلك، لايزال الرأى العام مؤيداً بقوة للهجرة حيث يعتقد 82% أن المهاجرين صالحون لأستراليا و52% يعتقدون أن وتيرة الهجرة الحالية صحيحة أو منخفضة للغاية، مقابل 43% يريدون تخفيضها، وفقاً لاستطلاع أجرته مؤسسة سكانلون.
وتعتمد سياسة الهجرة المفتوحة غير المعتادة فى أستراليا على الصرامة ولقد أوضحت الحكومات المتعاقبة أن أستراليا تقرر من يمكنه أو لا يمكنه المجىء، ويتم القبض على أولئك الذين يحاولون الهجرة بشكل غير قانونى فى البحر، وإذا لم تستوعبهم أى دولة أخرى، فيتم إلقاؤهم فى معسكر “ناورو”، وهى جزيرة نائية فى المحيط الهادئ.
هذه السياسة قاسية بقدر ما هى مثيرة للجدل، لكنها منعت المهاجرين غير الشرعيين من القيام برحلة بحرية خطرة، وهذا يجعل من الأسهل الفوز بالموافقة العامة لقبول الكثير من المهاجرين عبر الطريق القانونى.
قوانين العمل تدفع الأجانب المهرة إلى تأسيس شركاتهم الخاصة
ووجدت أليسون هاريل من جامعة كيبيك أن الناخبين أكثر تسامحاً مع الهجرة إذا شعروا أن بلادهم تسيطر على حدودها.
وهذا الأمر أسهل بالنسبة للدول الجزرية مثل أستراليا وأصعب بالنسبة لتلك مثل الولايات المتحدة التى تشترك فى حدود برية طويلة مع دولة نامية، وعندما يظن الناس أن الحكومة فقدت السيطرة على حدودها، كما حدث فى ألمانيا خلال أزمة اللاجئين فى الفترة من 2015 إلى 2016 فإنهم يصبحون أكثر عدوانية للمهاجرين.
ولن يدعم الناخبون مستويات أعلى من الهجرة إلا إذا كانت العملية التى تم قبولهم بها منظمة وانتقائية لأنهم يريدون اختيار من سمحوا لهم بدخول أراضيهم وهذا هو السبب فى أن لقطات قافلة آلاف من أمريكا الوسطى يسيرون شمالاً ويطالبون بالسماح بدخول الولايات المتحدة ربما تكون سبباً لفوز ترامب بأى تصويت.
ويوجد مصدر قلق مختلف وهو أنه إذا نسخت جميع الدول الغنية أستراليا وسرقت أفضل المواهب الأجنبية، فإن الدول الفقيرة ستصبح أكثر فقراً، ومن غير المنطقى التسبب فى هجرة العقول حسب هذه الحجة، لأنه إذا غادر جميع الأطباء والمهندسين ليبيريا أو هندوراس، فإن المرضى هناك سيموتون والجسور سوف تسقط.
وهذه الحجة يمكن الرد عليها بأن إرسال المهاجرين للأموال إلى الوطن يعطى فرصة لتطوير التعليم فالمهندس الذى يكسب 7 آلاف دولار سنوياً فى زامبيا سيحقق 70 ألف دولار فى أمريكا ويرسل جزءاً أكبر من الذى كان يكسبه فى بلده إلى أسرته، حيث يبقى المهاجرون على اتصال مع بلدانهم الأصلية.
ويقضى البعض عقداً أو عقدين فى الخارج، ثم يعودون لبدء عمل تجارى بالمعرفة التى اكتسبوها فى بلد أكثر تقدماً.
وبمعنى تقريبى بدأت صناعة تكنولوجيا المعلومات الهندية بعد قيام “موكيش أمبانى” أغنى رجل صناعى فى الهند عمله بعد أن ترك الدراسة فى جامعة ستانفورد، واكتشف “جاك ما” مؤسس “على بابا” أكبر شركة للتجارة الإلكترونية فى الصين الإنترنت عن طريق رحلة إلى أمريكا.
ووجدت دراسة أجرتها مؤسسة كوفمان، وهى مؤسسة فكرية أن ثلثى رواد الأعمال الهنود الذين عادوا إلى ديارهم بعد العمل فى أمريكا يحافظون على اتصال شهرى على الأقل مع زملائهم السابقين ويتبادلون الحوار ويتقاسمون الأفكار.
وما هو أكثر من ذلك، إغراء كسب أموال كبيرة فى الخارج يغير الحوافز للناس فى البلدان الفقيرة ويسعى الكثير منهم للتعلم واكتساب مهارات قابلة للتسويق وبعد أن يكتسبوا هذه المهارات فإن الكثير منهم لم يهاجروا أبداً، ربما لأنهم يقعون فى الحب أو أن آبائهم يمرضون فتنتفع بلدانهم بهم.
وكثير من الذين يهاجرون، يعودون فى النهاية وفقاً لدراسة أجراها “فريديريك دوكوييه” و”هيليل رابوبورت” أظهرت أن الهجرة عالية المهارات لا تحتاج إلى استنزاف رأس المال البشرى لبلد ما وإذا تمت معالجتها جيداً فيمكن أن تجعل البلد المرسل أكثر ثراءً.
وستستفيد دول كبيرة مثل الهند والصين والبرازيل بسخاء من إرسال المزيد من المهاجرين للخارج، ومع ذلك، بمجرد أن تبدأ أى دولة فى فقدان أكثر من 20% من خريجيها الجامعيين، كما تفعل بعض الدول الأفريقية الصغيرة فإنها تبدأ فى كبح النمو.