بدأت وفود المفاوضين التجاريين ذوى البذلات السوداء التى تنطلق ذهاباً وإياباً بين الولايات المتحدة والصين وكأن مصير اقتصاد العالم يقع بين أيديهم فى العام الماضى، لذا عندما وقع البلدين على المرحلة اﻷولى من الاتفاق التجارى فى منتصف يناير الماضي، بدا الطريق وكأنه ممهد أخيراً لتسارع النمو الاقتصادى العالمى والاستثمار والتجارة.
ولكن في الوقت الذي كان يمسك فيه الرئيس الأمريى دونالد ترامب ونائب رئيس مجلس الدولة الصيني ليو خه نسخ موقعة من اتفاقهما التجاري ويقدمانها لوسائل الإعلام في العالم، كان الناس فى مدينة ووهان الصينية يعانون من فيروس جديد يشبه الالتهاب الرئوى.
أما الآن، بعد أقل من 3 أسابيع من احتفال واشنطن وبكين بتوقيع اتفاق تجاري، لقى أكثر من 200 شخص مصرعهم وأصيب الآلاف وأعلنت حالة طوارئ صحية عالمية، مما ترك آفاق الاقتصاد العالمى فى أيدى عمال الصحة الشجعان الذين يرتدو ملابس واقية ويعون جاهدين لاحتواء انتشار الفيروس.
وأوضحت مجلة “بلومبرج بيزنس ويك” اﻷمريكية، أن الجهود الأولية تضافرت مع بداية العام القمري الجديد للتصدي لهذا الفيروس، فقد فُرض حجر صحى على مدينة ووهان، مركز النقل والصلب وصناعة السيارات الهام والذى يضم 11 مليون نسمة، ولكن ما يقدر بنحو 5 ملايين شخص غادروا المدينة خلال فترة العطلة، بعضهم كان يحمل الفيروس معه إلى البلدات القريبة والمدن الكبرى وحول العالم أيضاً.
ومنذ ذلك الحين، أغلقت المزيد من المناطق وتم تمديد العطلة لأسبوع إضافىىىفى 14 مقاطعة صينية، بما في ذلك مقاطعة وانغدونغ، التى تضم مدينة التكنولوجيا شنتشن، ومقاطعة شانغهاى، موطن أكبر ميناء فى الصين ومصنع “تسلا” المنشأ حديثاً، ومقاطعة جيانغسو، مكان تصنيع أحذية نايكى.
وأوضحت وكالة أنباء “بلومبرج”، أن تلك المقاطعات شكلت نحو 69% من الناتج المحلى الإجمالى للصين فى عام 2019.
وأشارت المجلة إلى أن هناك شركات عديدة، مثل “ستاربكس” و “ماكدونالدز”، أغلقت متاجرها في الصين، وأوقف صانع السيارات الياباني “تويوتا” وغيره الكثيرين أنشطتها الإنتاجية في الصين، كما تلقى الملايين من الناس أوامر بالعمل من المنزل عند انتهاء فترة العطلة في خطوة تعد أكبر تجربة للعمل من المنزل، وبالنظر إلى دور الصين كمصنع للعالم، فمن المؤكد أن تعطيل سلاسل الإمداد العالمية سيتأثر على المدى البعيد.
ويتطلع خبراء الاقتصاد إلى تفشي فيروس السارس في عام 2003 ليتمكنوا من صياغة توقعاتهم، حيث يرى الكثيرون ضربة اقتصادية أكبر هذه المرة للصين والعالم، ويرجع السبب في ذلك- بالنسبة للصين- إلى أن الاستهلاك يشكل شريحة أكبر بكثير من اقتصادها في الوقت الراهن، أما الضربة الاقتصادية بالنسبة للعالم ستنتج عن استحواذ اقتصاد الصين على نسبة كبيرة من اقتصاد العالم.
وأوضحت “بلومبرج إيكونوميكس”، أن الصين تستحوذ حالياً على 17% من الناتج المحلي العالمى، وكتب تشانج تشو وجيمي راش وتوم أورليك، الاقتصاديون في “بلومبرج”، في مذكرة، أن أقرب جيرانها، الذين يندمجون بعمق فى سلاسل الإمداد الإقليمية ويقومون بالتصدير إلى المستهلكين الصينيين ويستفيدون من السياح الصينيين، سيكونون الأكثر تضرراً من تفشى كورونا.
وأوضح خبراء الاقتصاد في بلومبرج أن هونج كونج، التي تعاني في اﻷساس من احتجاجات شعبية عنيفة مناهضة للصين، ستكون اﻷكثر تعرضا لهذا الضرر، مع احتمالية تعرضها لضربة بنسبة 1.7% فى النمو فى الربع الأول من 2020.
بالإضافة إلى ذلك، ستعاني كوريا الجنوبية وفيتنام وكذلك اليابان، التي من المتوقع استضافتها للألعاب الأولمبية في طوكيو هذا الصيف، كما سيعانى مصدرى السلع، مثل أستراليا والبرازيل، أما الاقتصادات الغربية الكبرى، باستثناء ألمانيا، فستواجه تأثيراً أقل نظراً# لانخفاض تعرضها للصين.
وعانت الأسواق المالية من ركود أيضا، كماً أن أى استمرار فى تفادى المخاطر وتشديد الظروف المالية قد يضاعف التأثير الاقتصادى للفيروس، وتراقب السلطات النقدية، بما فى ذلك رئيس مجلس البنك الاحتياطى الفيدرالى جيروم باول، الوضع بحذر شديد.
وسلطت “بلومبرج بيزنس ويك “الضوء على الاتفاق التجاري الموقع مؤخراً بين واشنطن وبكين، والذي تضمن وعود الصين برفع حجم مشترياتها من الولايات المتحدة، اﻷمر الذى كان يصفه الاقتصاديون بأنها غير واقعى، حيث سيصعب الوفاء بهذا البند الآن بعد أن أثر الفيروس على الطلب وسلاسل الإمداد.
ويثير ذلك مسألة ما إذا كانت الولايات المتحدة ستعتبر اندلاع المرض كارثة طبيعية أو غير ذلك من الأحداث غير المتوقعة، مما يؤثر على أحد بنود الاتفاقية ويدفع إلى انعقاد محادثات جديدة في حالة فشل أى من الطرفين في الامتثال لالتزاماته.
وقال كارل ريكادونا، الخبير الاقتصادى الأمريكى لدى “بلومبرج إيكونوميكس”: “إذا لم يصبح الوضع أسوأ بكثير، لا أعتقد أن ترامب سيمنح الصينيين هذا الأمر، فهو بحاجة إلى تسجيل نمو اقتصادى قوى”.
وتتوقع “بلومبرج إيكونوميكس” تباطؤ نمو اقتصاد الصين إلى 4.5% فى الربع الأول من عام 2020، قبل تسجيل انتعاش محتمل فى الربع الثانى من العام والاستقرار فى النصف الثانى.
وقال لو تينج، الاقتصادى لدى “نومورا هولدينجز”، إنه بينما تعزز بكين التحفيز النقدي والمالي، يبدو من غير المحتمل أن تؤدى هذه التدابير إلى قلب الاقتصاد رأسا على عقب، خاصة أن تفشى كورونا قد يضعف الطلب المحلي بشكل أكبر، وبالتالي تصبح الخطوة القادمة لتخفيف السياسة أقل فاعلية، وهو اﻷمر الذي يترك التوقعات الخاصة بالصين والعالم بأسره مرتبطة بمدة سرعة احتواء الفيروس والسيطرة عليه.