يبدو أن خروج بريطانيا الرسمى من الاتحاد اﻷوروبى فى نهاية شهر يناير يدل على أنها بدأت فى إعادة تحديد أولوياتها السياسية والدبلوماسية بما يتماشى مع هويتها القديمة كدولة بحرية رائدة سادت محيطات العالم من القرن الـ17 وحتى القرن الـ20.
بعد مرور نصف قرن من تركيز اهتمامها الاستراتيجى على القارة اﻷوروبية، تحول بريطانيا تركيزها الاستراتيجى الآن نحو منطقة المحيط الهادئ والهندى، حيث كانت تتمتع ذات يوم بهيمنة اقتصادية وعسكرية، ونتيجة لهذا التحول الجيوسياسى الجذرى، تحتاج رابطة دول جنوب شرق آسيا معرفة الآثار الكاملة لعودة بريطانيا كقوة.
وزارت هيذر ويلر، التى كانت آنذاك وكيلة وزارة الخارجية وشئون الكومنولث فى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، مقر رابطة الآسيان فى جاكرتا فى 15 يناير، أى قبل أسبوعين من خروج بريطانيا، ونقلت رسالة لندن إلى الأمين العام لرابطة الآسيان ليم جوك هوى.
وكان مفاد رسالة لندن: “لقد كنا شركاء للحوار عبر الاتحاد الأوروبى لأكثر من 40 عاماً، ونود أن نمضى قدماً فى هذا الوضع.. نحن ندرك أن الأمر سيستغرق بعض الوقت لإنجاز ذلك”.
وأوضحت مجلة “نيكاى آسيان ريفيو” اليابانية، أن الآسيان لم تضف أى دولة إلى قائمة شركائها فى الحوار منذ عام 1996، عندما انضمت الهند والصين وروسيا إلى الصفوف، وأشارت إلى أن حماس الحكومة البريطانية لتعزيز علاقاتها مع الآسيان واضح فى تحركها لإطلاق عملية مطولة تقودها لتصبح شريكاً فى حوار الآسيان.
كانت آسيا القوة الدافعة للنمو الاقتصادى العالمى، كما أن المملكة المتحدة، التى غادرت الاتحاد الأوروبى، تحرص على الانضمام إلى زخم النمو فى المنطقة، حيث يكمن اهتمام لندن الرئيسى فى شراكتها الاقتصادية مع الآسيان.
تحتاج المملكة المتحدة، التى تروج للتجارة الحرة عبر الاتحاد الأوروبى، إلى إبرام صفقات تجارية جديدة مع شركائها الرئيسيين خلال الفترة الانتقالية التى تستمر حتى نهاية العام الحالى، ويبدو من الواضح أن لندن ترى أن اتفاقية التجارة الحرة بين سنغافورة والاتحاد الأوروبى، التى تمت بعد مفاوضات استمرت 10 سنوات، نموذج محتمل لاتفاقها مع الآسيان.
ووفقاً لهذا الصدد، أكد دومينيك راب، وزير الخارجية البريطانى، على الأهمية الاستراتيجية لسنغافورة، عضو الآسيان الوحيد الذي يملك اتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبى، بالنسبة للمملكة المتحدة، حيث وصفها بأنها المحور اﻷساسى لاستراتيجية بريطانيا المستقبلية.
يعد الاتحاد الأوروبى ثانى أكبر شريك تجارى لمنطقة الآسيان بعد الصين، ففى عام 2018 بلغت التجارة بين الآسيان والاتحاد الأوروبى 288.2 مليار دولار، مقارنة بـ 483.7 مليار دولار فى حجم التجارة مع الصين.
واستحوذت المملكة المتحدة على 12.1% من حجم التجارة بين الاتحاد الأوروبى والآسيان، لتستحوذ بذلك على رابع أكبر نسبة بين أعضاء الاتحاد الأوروبى بعد ألمانيا وهولندا وفرنسا.
وتقوم الآسيان بصياغة اتفاقيات تجارية حرة مع شركائها التجاريين الرئيسيين، مثل اليابان والصين وكوريا الجنوبية، ولكن محادثاتها التجارية مع الاتحاد الأوروبى، التى بدأت فى عام 2007، عُلقت منذ عام 2009، عندما انسحب الاتحاد الأوروبى احتجاجاً على انتهاكات حقوق الإنسان التى ارتكبتها الطغمة العسكرية فى ميانمار.
تحول الاتحاد الأوروبى إلى التفاوض على صفقات مع الأعضاء الأفراد، ولكن سنغافورة وفيتنام هى الدول الوحيدة فى الآسيان التى وقعت اتفاقاً تجارياً مع الاتحاد الأوروبى، وربما يبدأ سريان تلك الاتفاقية هذا العام.
ويبدو أن مساعى المملكة المتحدة للتوصل إلى اتفاق تجارى مع الآسيان ربما يضغط على الاتحاد الأوروبى، الذى يرفض بشدة إجراء محادثات تجارية مع الآسيان، فى حين ستجنى الآسيان فوائد هائلة من اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبى، ويبدو أيضاً أن المملكة المتحدة، التى أدارت ظهرها للاتحاد الأوروبى فى ظل سعيها لعلاقات أوثق مع الآسيان، قد تتحول إلى شريك مناسب لتكتل دول جنوب شرق آسيا.