لم يكن صدفة عندما كتبت، فى مطلع السنة المالية الحالية يوليو 2019 «ربنا يجعله عامر»، ومطالبتى المتواضعة، القيادة السياسية الحكيمة بالنظر فى التجديد لمحافظ البنك المركزى طارق عامر؛ لأن المقدمات كانت كفيلة بتحقيق النتائج؛ حيث لعب عامر ورفاقه بالمركزى على مدار أربع سنوات ماضية، وهى فترة رئاسته للبنك المركزى الأولى دوراً مهماً فى تحقيق أهداف ونجاح البرنامج الاقتصادى المصرى، وقاد القطاع المصرفى والسياسة النقدية دفة السفينة، وشكَّل عامر ورفاقه قطاعاً مصرفياً متجانساً ومتعاوناً، وكان إنكار الذات وإعلاء المصلحة العامة على المصالح الشخصية هو كلمة السر فى نجاح تلك المنظومة.
فجاءت موافقة مجلس إدارة صندوق النقد الدولى على منح مصر الشريحة الأخيرة من القرض المقرر لها، والإشادة ببرنامج الحكومة صدفة تكليلاً لنجاحاته فى إدارة السياسة النقدية البلاد، وجاءت إشادة بلومبرج بتحسن الجنيه المصرى، والتحول من أسوأ ثانى عملة فى العالم إلى أفضل ثانى عملة فى العالم صدفة فى ختام مدته الأولى، وجاء ذلك كله بالتزامن مع قرب انتهاء المدة القانونية لتوليه منصب محافظ البنك المركزى المصرى والتى تنتهى فى الخامس والعشرين من نوفمبر الماضى.
كل هذه الإيجابيات كانت مؤشراً قوياً لتجديد ثقة القيادة السياسية والرئيس عبدالفتاح السيسى، رئيس الجمهورية فى طارق عامر، والتجديد له فترة رئاسة ثانية، وكأن القدر يخبئ لـ«عامر» التحديات والأزمات فقط بدأ المرحلة الأولى ومصر على حافة الهاوية بعد موجة من الثورات والتحديات.
وبدأ عامر أولى خطواته بأجرأ قرار اتخذ فى تاريخ مصر المعاصر ألا وهو تحرير سعر الصرف بما عرف إعلامياً بـ«تعويم الجنيه»، وما قوبل به الرجل من انتقادات وحرب شرسة كانت كفيلة بهدم أى إنسان، ولكنه «عامر» الذى ترجع جذوره للصعيد وما عرف عن أهله من صرامة وعناد وإصرار على النجاح بناء على رؤى علمية وخطوات مدروسة، فلم يخش فى الحق لومة لائم.
وجاء دعم القيادة السياسية ومساندتها له بمثابة العامل الرئيسى فى تثبيت خطواته بنجاح، وذلك ليس مصادفة، ولكن القدر أراد أن ينصف هذا الرجل وقطاعه المصرفى الذى كان ومازال فرس الرهان ونقطة قوة، والعمود الفقرى الأساسى فى نجاح البرنامج الاقتصادى للحكومة المصرية، فالإصلاح النقدى كان عنصراً قوياً مع الإصلاح المالى والإدارى فى برنامج الحكومة.
وبالرغم مما تعرض له طارق عامر من حروب إلكترونية للنيل منه والتخلص من هذه المنظومة المتناغمة القوية الوطنية المخلصة لبلدها وهدمها، حتى لا تستطيع مصر العودة لريادتها وقيادتها للمنطقة، فإنَّ ثقة القيادة السياسية بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى، رئيس الجمهورية، كانت الحد الفاصل لإيقاف تلك الحرب بإعلان التجديد له فترة أخرى.
وكأن القدر يخبئ، ويحمل لطارق عامر الكثير من التحديات فلم يمر سوى أيام قليلة إلا وكعادته دائماً يفاجئنا «عامر» بمجموعة وحزمة من الحوافز الاستثمارية القوية ومبادرات فى جميع القطاعات التى عانت من برنامج الإصلاح الاقتصادى، فكانت مبادرة البنك المركزى لقطاع السياحة، وإنقاذ المنشآت السياحية.
أعقبها مبادرة المتعثرين، ثم مبادرة دعم الصناعة المصرية، بالإضافة لاستكمال دعم وتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وجاءت مبادرة رواد النيل لدعم مشاريع ريادة الأعمال، ثم مبادرة إسكان متوسطى الدخل الذين تحملوا عبء نتائج الإصلاح الاقتصادى وكان لهم النصيب الأكبر من دفع فاتورته، فجاءت مبادرة المركزى لتمويل ودعم إسكان متوسطى الدخل برداً وسلاماً على هذه الطبقة المهمشة، ليعلن «عامر» عن قيادة القطاع المصرفى لمنظومة إعادة الحياة والإنتاج لقاطرة الصناعة المصرية والمنتج المصرى ويشكل نقلة نوعية فى تاريخ الاقتصاد المصرى.
ولكن يأبى القدر أن يترك “عامر” ورفاقه أن يسيروا بهدوء فى تحقيق أهدافه وطموحه بهدوء وخطوات ثابتة، حتى يفاجئ القدر بوباء فيروس كورونا العالمى الذى ضرب الصين بعد أيام قليلة من بداية فترته الثانية، وما هى إلا شهور قليلة تحول فيها إلى وباء عالمى اجتاح فيه جميع دول العالم ليقضى على الأخضر واليابس، ويحصد آلاف الأرواح ويقف العالم أمامه عاجزاً عن مواجهته حتى الآن، وتبدأ كل دولة تلو الدولة فى الانعزال عن العالم، وغلق حدودها وإجلاء رعاياها من الدول الأخرى، وانهارت البورصات العالمية، وحققت خسائر فادحة ليواجه العالم أزمة عالمية تفوق الأزمة العالمية التى واجهها العالم فى 2008 وفى ظل هذا الرعب الذى اجتاح العالم، بدأت الدولة فى تخفيض الفائدة البنكية فكانت البداية ببريطانيا بتخفيض الفائدة من 0.75% إلى 0.25% وأعقبها الفيدرالى الأمريكى الذى أعلن مطلع الأسبوع تخفيض الفائدة لتصل للفائدة الصفرية محاولة من تلك الدولة لمواجهة الآثار الناجمة عن هذا الوباء.
فهل يقف عامر ورفاقه مكتوفى الأيدى متفرجاً وشاهداً على جنى البورصة المصرية نصيبها من أشواك هذا الوباء الذى طالها وضرب بها وهوى بالبورصة المصرية لأسوأ أداء تشهده على مستوى أداء جميع المؤشرات هنا، وكعادته ارتدى مرة أخرى عامر ورفاقه وكأن القدر قدر لهم مواجهة تلك الأزمة، وفى غير المواعيد المعتادة لاجتماعات لجنة السياسات النقدية ويخالف كل التوقعات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه يفاجئنا عامر بتاريخ 16 مارس 2020 بالدعوة لاجتماع طارئ واستثنائى للجنة السياسات النقدية.
ووسط إجراءات غير مسبوقة من جانب الحكومات تضمنت حظر التجوال فى بعض المدن واتخاذ قرارات استثنائية بتقليل عدد الموظفين فى الوقت الذى فاجأ البنك المركزى المصرى الأسواق بخفض غير متوقع فى أسعار الفائدة بنسبة 3% دفعة واحدة، ويعد هذا الخفض الأكبر فى مصر، وفقاً للأرقام المتاحة من البنك المركزى منذ عام 1991، لتصل أسعار الفائدة إلى أدنى مستوياتها منذ فبراير 2016.
وأعلن البنك فى اجتماع طارئ، عقده أمس، أن سعرى عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة وسعر العملية الرئيسية أصبحا عند مستوى 9.25% و10.25% و9.75% على الترتيب، وسعر الائتمان والخصم عند مستوى 9.75%.
وأرجع “المركزى” قراره لتطورات والأوضاع العالمية، وما استتبعها من التحرك للحفاظ على المكتسبات التى حققها الاقتصاد المصرى منذ انطلاق برنامج الإصلاح الاقتصادى الوطنى، وما اعتاده البنك المركزى المصرى على اتخاذ خطوات استباقية فى الظروف الاستثنائية.
وأرى أن هذا القرار جاء لتنشيط الاقتصاد وحماية الشركات ضد التعثر؛ لأن معظم الشركات المقترضة من البنوك لديها مشكلات فى تكلفة الاقتراض، وبالتالى فإنَّ قرار البنك المركزى خفض الفائدة 3% سيخفف الأعباء عليهم، كما سينشط عمليات الاستهلاك، فضلاً عن خفض تكلفة الدين الحكومى بقيمة كبيرة جداً.
الهدف الآن هو الحفاظ على الكيانات الاقتصادية القائمة وإنقاذها من التعثر، بما يقلل فرص وجود عجز فى الإيرادات الضريبية بالحفاظ على ربحية الشركات.
وتوقع كثير من الخبراء أن ينخفض العائد على أدوات الدين الحكومى فى أول طرح يعقب خفض المركزى للفائدة، وأن تخارجات الأجانب وتراجعات الأسواق ليست لاعتبارات استثمارية فى الوقت الحالى، ولكن «لاعتبارات البقاء»، كما أن خفض الفائدة فى الوقت الراهن يتيح المناورة بأسعار الفائدة حال ارتفاع سعر الدولار ومحاولة رفع الفائدة لامتصاص ضغوط تضخمية من مستويات منخفضة، بالإضافة إلى أن خفض الفائدة سيقلل أعباء التمويل على الشركات المقيدة، وبالتالى سيرفع من ربحيتها، كما سيخفض نسب الخصم، وبالتالى ارتفاع فى التقييم المالى للأسهم، ما سيرفع من جاذبيتها الاستثمارية. ويظل السؤال الأهم إلى متى ستظل الأزمة الحالية وإلى أى شىء ستنتهى؟، هذا ما يعلمه الله ويجعلنى دائم الدعاء بأن يجعل مصر دوماً عامر بقطاع مصرفى قوى قادر على مواجهة تلك الأزمات والتحديات، ودوماً عامر بالمخلصين من أبنائه أمثال «عامر» ورفاقه.
بقلم: محمد ناقد؛ كاتب وإعلامى.