من المعروف أن التغيير سُنة من سنن الحياة، وكلما كان التغيير للأفضل يكون درجة تقبله أكبر، لكن إن صاحب هذا التغيير انهيارات حياتية حتماً ستكون ذكرى هذا التغيير غير محمودة، وإذا ما تطرقنا إلى الأحداث الاقتصادية العالمية التى لا يمكن أن تمر مرور الكرام، فسنجد أن هناك أحداث رئيسية أثرت بصورة مباشرة على مسار الاقتصاد العالمى.
فأحد أهم تلك الأحداث هو أزمة الكساد العالمي عام 1929-1930، والتي بدأت شرارتها من الولايات المتحدة الأمريكية عقب انهيار نظامها الرأسمالى، ليتحول العالم إلى تطبيق نظام الاقتصاد الموجه، بالتوجه إلى تأميم الصناعات المهمة وتطبيق نظام مراقبة الأسعار، والتحكم في توزيع المواد الأولية، مع وضع حد أدنى للأجور، وتوجه الدولة إلى الدخول في مشاريع كبرى بهدف تشغيل أكبر عدد ممكن من العمالة لحل مشكلة البطالة مع تقديم المساعدة للشباب العاطلين عن العمل، وتحفيز تلك القوى العاطلة تجاه العمل في المشروعات الحكومية التنموية، لتتوجه الدولة إلى التحكم في الصناعيين والمزارعين والمستثمرين، لتفرز أزمة الكساد العالمي نظام اقتصادى عالمى جديد بعيد عن الرأسمالية مرسخاً للهيمنة الحكومية، وهو ما أدى إلى وصول العديد من الأنظمة الدكتاتورية إلى السلطة فى بعض البلدان كالنازية فى ألمانيا، ليتم إغلاق أسواق كثيرة فى وجه التجارة العالمية وتتوقف حركة التبادل التجارى.
وتتوجه الكثير من دول العالم إلى اتباع سياسة الاكتفاء الذاتى، ليستمر الاقتصاد العالمى على وتيرته وسياسته التى خلفتها أزمة الكساد العالمى لفترة ليست بالقصيرة تستمر فى حدود 50 عاماً، لتبدأ شرارة الرأسمالية مجدداً من الولايات المتحدة الأمريكية عام 1975 حينما تحكم فى ثروات الدولة الأمريكية 20% فقط من الأسر الأمريكية، لتبدأ موجة جديدة لتحول العالم من الاقتصاد الموجه إلى الدعوة إلى الاقتصاد الحر، برعاية البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ليتم تشجيع مختلف دول العالم على اتباع السياسات الاقتصادية التحررية، مع التأكيد على أن الانسحاب الحكومي من النشاط الاقتصادي وتركه للقطاع الخاص الذى سيكون محور تحقيق التنمية الاقتصادية وغاية الخطوات الإصلاحية، لتحتفظ الحكومات بدورها الرقابي، وهو ما يتطلب مؤسسات قوية على درجة عالية من التقدم والكفاءة كى يتحقق النجاح لشروط الإجراءات الإصلاحية.
لتستمر الدول المتقدمة فى الدفع بخطوات التحرر الاقتصادي العالمي، ويؤيدها في ذلك مؤسسات التصنيف الائتماني الدولية، والتي لعبت دور المراقب الدولي للكفاءة المالية والأداء الاقتصادي لمختف دول العالم، ومن ثم تؤثر درجات تصنيفاتها الائتمانية على درجة نجاح الدولة فى التوجه نحو الخطوات التحررية، وهو ما دفعها لمجاملة الاقتصاد الأمريكى قبل عام 2008، وهو الاقتصاد المتسبب فى الأزمة المالية العالمية الناتجة عن عدم قدرة المواطن الأمريكى على سداد الرهن العقارى.
لتخفى مؤسسات التصنيف الائتماني الوضع الاقتصادي الأمريكي المتردي قبل الأزمة المالية العالمية، وعدم تقديرها للمخاطر المتعلقة بسندات الرهون العقارية، لتنتقل الأزمة المالية إلى باقي دول العالم المرتبط اقتصادها بالاقتصاد الأمريكي مثل دول أوروبا وآسيا ودول الخليج، وهو الأمر الذى أجبر مؤسسات التصنيف الائتمانى على العدول عن توجهاتها، لتعتزم البعد عن المجاملات الاقتصادية، وذلك بهدف الحفاظ على مصداقيتها العالمية، وحفاظاً على النظام الاقتصادي العالمي التحررى الذى ترعاه كبرى الدول.
ليفاجأ العالم بداية من عام 2019 أى بعد مرور قرابة الـ50 عاماً من التوجهات الاقتصادية التحررية، بإطلاق الولايات المتحدة الأمريكية لأجراس الإنذار، بالانسحاب من عدد من الاتفاقيات التجارية، وفرض المزيد من التعريفات الجمركية، والدخول فى حرب تجارية مع العملاق التجارى الصينى، للتنافس على فرض القيود التجارية، ويتبعهم الانسحاب البريطانى من الاتحاد الأوروبى، ليتم تطويق مختلف دول العالم بمزيد من الإجراءات الحمائية التى تم فرضها، لتقبع دول العالم داخل قوقعة تجارية خشية انتشار فيروس كورونا، لتبحث كل دولة عن مواردها محاولة تحقيق الاكتفاء الذاتى من السلع والخدمات، لنعود إلى نقطة الاقتصاد الموجه الذى ظهر عقب أزمة الكساد العالمي 1930، ولكن بنكهة جديدة مغلفة بالتواصل الإلكترونى، لندعو إلى أهمية الاكتفاء الذاتي المصحوب بالتعاون التكنولوجى العابر للحدود، والدعوة إلى مزيد من الاستثمارات العامة خاصةً في مجال الصحة، وانتشار فكرة التعليم عن بعد والاجتماعات الافتراضية.
لتنبأ بصعود اقتصادات دولية جديدة واختفاء أخرى، ليتم إعادة تشكيل الاقتصاد العالمى من جديد، ولكن تلك المرة بقواعد جديدة للعبة الاقتصاد العالمى، يكون المايسترو فيها هو التقدم التكنولوجى ليتم الجمع بين قواعد الرأسمالية والتدخل الحكومى فى آليات الاقتصاد الموجه، ليخرج لنا نظام اقتصادى عالمى فى ثوب جديد، لنتأكد من نتيجة واحدة ألا وهى أن حالة الملل التى تنتاب الاقتصاديين من ثبات وتيرة النظام الاقتصادى العالمى دورة حياتها تستمر قرابة الـ50 عاماً، ليقوموا بتغيير قواعد اللعبة عقب مرور تلك الأعوام، والبدء فى صياغة منظومة اقتصادية عالمية جديدة، بهدف القضاء على الروتين الاقتصادى العالمى، الذى يدفع فاتورته مختلف دول العالم، ليتم القضاء على حالة الملل التى تنتاب الاقتصاديين على حساب معاناة دول العالم التى تلهث فى البحث عن إيجاد مكانة جديدة لها فى تلك المنظومة المتغيرة.
د. شيماء سراج عمارة
خبير اقتصادى
[email protected]