يبدو أن الصدمة المشتركة لانهيار أسعار البترول وانتشار جائحة فيروس كورونا المستجد، تجبر دول الخليج على إعادة التفكير في سياساتها تجاه غالبية العاملين في القطاع الخاص في المنطقة، أو ما يطلق عليهم لقب “المغتربون”.
وتطيح أعمق موجة ركود في زمن السلم، منذ الثلاثينيات ، بملايين الوظائف في جميع أنحاء العالم. ولكن فقدان الوظائف في اقتصادات الخليج، البالغ قيمتها 1.6 تريليون دولار، عادة ما يضر كل شيء، بداية من الهجرة إلى القدرة على فتح حساب مصرفي أو استئجار شقة أو الحصول على خط هاتف، خصوصا أن كل تلك الأمور غالبا ما تتطلب إذن صاحب العمل.
وفي تلك الاقتصادات، التي تتألف من نحو 30 مليون شخص، لا يمتلك كافة العمال الأجانب تقريبا طريقا واضحا للحصول على إقامة دائمة أو الجنسية.
قالت الباحثة التي تغطي شؤون الشرق الأوسط في معهد “أميركان إنتربرايز” بواشنطن،كارين يونج، إن التسريح الجماعي للعمال يشكل خطرا كبيرا، مشيرة إلى أن الاقتصاد المحلي بأكمله في قطاع الخدمات في دول، منها الإمارات وقطر، يعتمد على استهلاك المغتربين، من إنفاق الأموال والذهاب إلى المطاعم وتجارة التجزئة.
واستفادت اقتصادات الخليج من ثروتها البترولية لزيادة عدد سكانها بالعمال الأجانب وبناء مجتمعات استهلاكية نشطة. فقد أدى التحول الاقتصادي في المنطقة إلى دفع السعودية، بجانب ألمانيا، لتصبح ثاني أكبر وجهة للمهاجرين في العالم.
ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة، استضافت الإمارات، التي تصل كثافتها السكانية المحلية إلى نحو مليون نسمة، العام الماضي، عددا أكبر من المهاجرين مقارنة بفرنسا أو كندا.
وأوضحت وكالة أنباء “بلومبرج” أن النداء الموجه للأجانب كان واضحا، إذ يمكن للأجور السخية والضرائب القليلة أو المنعدمة تقريبا أن تحول الشرق الأوسط إلى مشروع مربح للوافدين الجدد.
ولكن بالنسبة للكثيرين، يبدو أن الآفاق آخذة في التلاشى، حيث تُدمر الميزانيات الحكومية. كما أن معظم المحلات التجارية تغلق أبوابها، وتم تعليق الرحلات الجوية وتأجيل أعمال التشييد والبناء.
ولم تكن البيانات الأولية واعدة، إذ خفضت الشركات الإماراتية معدلات التوظيف في مارس الماضي بأقصى وتيرة منذ أن بدأت شركة “آي.إتش.إس ماركيت” في تتبع ظروف التشغيل بالقطاع الخاص غير البترولي في البلاد.
وحذرت منظمة العمل الدولية من إمكانية تعرض أكثر من مليار عامل في جميع أنحاء العالم، بشدة، لخطر خفض الأجور أو فقدان وظائفهم بسبب تفشي فيروس كورونا.
وقال المحلل لدى وحدة “بلومبرج إيكونوميكس”، زياد داود، إن واضعي السياسات بحاجة إلى التركيز على منع الشركات المربحة في الأوقات العادية من الانهيار بسبب “كوفيد-19 ” وحماية العاملين في القطاعات الأكثر تضررا، ويجب أن تكون الأداة لتحقيق ذلك الإنفاق العام من خلال الأموال النقدية وليس برامج الإقراض.
وأشار إلى أنه ليس هناك أي بلد بالتأكيد بحاجة للخروج من هذه الأزمة دون شركات الطيران والنقل والضيافة والخدمات العاملة، ولن يكون أي بلد أفضل حالا بعد هجرة العمال الوافدين منه.
حتى قبل الأزمة الأخيرة، بدأت حكومات الخليج، إجراء تغييرات لضمان استمرار بقاء الأجانب، ممن تعتمد الاقتصادات عليهم بشكل متزايد، خلال الأوقات العصيبة والجيدة أيضا.
فعلى سبيل المثال اتخذت الإمارات، حيث يستحوذ الأجانب على أكثر من 85% من عدد سكانها، خطوات نحو منح إقامة طويلة الأجل. كما نفذت قطر إجراءات مماثلة.
وقالت يونج، في معهد “أميركان إنتربرايز”، إن الطريقة التي يتم التعامل بها مع الناس الآن، من حيث أوقات خروجهم أو محاولة تجديد العقود أو الحصول على مدفوعات نهاية الخدمة، ستحدد مدى جاذبية سوق العمل، خاصة بالنسبة للوظائف عالية الأجور، لفترة طويلة.
بدأت دول الخليج، إظهار الرغبة في تخفيف معايير الهجرة الصارمة على المدى القصير فقط، حيث أعلنت قطر إمكانية مكوث الأجانب، ممن يمتلكون تأشيرات منتهية الصلاحية، لشهر إضافي. كما خففت الإمارات بعض معايير تجديد الإقامة وتعهدت بدعم الزوار العالقين بعد إغلاق الحدود، وشجعت أيضا أصحاب العمل على اللجوء إلى الإجازات غير المدفوعة وتخفيضات الرواتب بدلا من تسريح العمالة.
ولكن حتى مع ضخ دول الخليج لعشرات المليارات من الدولارات ضمن إجراءات التحفيز الموجهة لمساعدة الشركات والبنوك في التصدي للتباطؤ الاقتصادي، فإن معظم المبادرات تستهدف أصحاب العمل وليس العمال أنفسهم.
وكانت الأولوية الأخرى لحماية المواطنين أولا، إذ تعهدت السلطات السعودية بمساعدة الشركات المتعثرة من خلال تأمين أجور السعوديين العاملين بها، في تحرك تستهدف الدولة من خلاله تجنب تسريح العمالة على نطاق واسع.
وقال كبير الاقتصاديين في شركة “بينينسولا” للعقارات في دبي، كريستوفر باين، إن الحكومات لن تقوم بإجراء تغييرات أساسية طويلة الأجل على سياسة الهجرة على الفور.
وأكد المؤسس المشارك لشركة “أركان بارتنرز” الاستشارية للاستثمارات البديلة، علي السالم، أن الشركات ستستجيب بشكل مختلف تبعا لظروفها، معربا عن قلقه بشكل خاص تجاه الشركات الصغيرة والمتوسطة خاصة أنها محور حملة التنويع الاقتصادي في الخليج وربما تكون أكثر من يعاني خلال هذه الأزمة.
وأوضحت “بلومبرج” أن العمال، الذين يواجهون خفض الأجور، سيكافحون من أجل تغطية نفقاتهم في مناطق باهظة الثمن.
وسمحت الكويت لعشرات الآلاف من المعلمين المغتربين وأسرهم بمغادرة البلاد لحين إعادة فتح المدارس مرة أخرى، مما قد يخفف الضغط عن نظام الرعاية الصحية.
ويبدو أن الوضع غير مستقر بشكل خاص بالنسبة للعمال المهاجرين من ذوي الدخل المنخفض، الذين يمكن تركهم معدمين دون دعم من الحكومة، لذا تدخلت المؤسسات الخيرية لشغل الفراغ في قطر والكويت، ولكن فقدان الوظائف سيؤثر أيضا على الاقتصادات الأخرى، إذ أصبح الخليج الآن مصدرا هاما للتحويلات المالية لدول من جنوب شرق آسيا إلى شمال أفريقيا.
وقال المؤلف المشارك في كتاب “المغتربون والقوى العاملة: قصة دول مجلس التعاون الخليجي”، جورج نوفل، إن العمال المهاجرين يرسلون مبالغ إجمالية إلى بلادهم قد تصل إلى ضعف الرقم الرسمي الذي يتراوح بين 70 ـ75 مليار دولار، ليوضح بذلك أهمية السكان المغتربين، مشيرا إلى أن فكرة نمو السكان المحليين واستيلائهم على الوظائف المتاحة ليس أمرا مجديا حقا.