فى عام 1905، قال جورج سانتيانا ساخرا: “أولئك الذين لا يستطيعون تذكر الماضى محكوم عليهم بتكراره”، ولكن نادرا ما انتبه أحد إلى معناها، وفى الوقت الذى يدمر فيه فيروس “كوفيد 19” الاقتصاد، ربما يكون فهمنا للتاريخ هو ما يفرق بين حدوث ركود عميق ثم تعافى حاد على شكل حرف “v” أو حدوث ركود مزدوج على شكل حرف “w”، أوحدوث ركود عميق يستمر لفترة ثم يأتى التعافى على شكل حرف “u”.
قبل وقت قريب، فى شهر مارس، بدأ التعافى على هيئة حرف V فى بعض الاقتصادات احتمالا معقولا، على أساس أنه بمجرد أن تبلغ حالات الإصابة بالعدوى والوفيات ذروتها ستبدأ فى الانخفاض، ثم سيعود الناس فى حماس ولهفة إلى العمل، بل وربما يحظى النشاط الاقتصادى بدفعة إضافية، حالما يطلق المستهلكون العنان للطلب المكبوت.
ويتماشى هذا التصور مع نمط التعافى من الكوارث الطبيعية، مثل الزلازل والأعاصير، وأيضا وباء متلازمة الالتهاب الرئوى الحاد (سارس) فى عام 2003.
وعلى الرغم من تراجع الناتج فى الصين نتيجة لمرض سارس، فإنه تعافى بسرعة كبيرة حتى أن الناتج المحلى الإجمالى السنوى لم يتأثر إلا بالكاد.
ومع ذلك، ربما يكون صانعو السياسات قادرين على تصميم التعافى على هيئة حرف U، وفى مثل هذا السيناريو، يُعاد فتح قطاعات بعينها من الاقتصاد، مع الفصل بين الموظفين بدنيا، وزمنيا إن أمكن بتشغيلهم فى دوريات متناوبة.
وهذا من شأنه أن يحافظ على استمرار الاقتصاد إلى أن تتم السيطرة على الأزمة الصحية، وعندها يمكن إعادة تشغيل كل القطاعات ويصبح من الممكن أن يبدأ التعافى الاقتصادى الكامل.
ويستلزم هذا السيناريو أن تعمل الدول على ضمان إجراء اختبارات متكررة ومجانية على نطاق هائل، وهو أمر ممكن من الناحية الفنية، على الأقل فى الدول ذات الدخل المرتفع، على الرغم من إخفاقات الحكم التى عرقلت التنفيذ فى العديد منها مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
وإذا جرى تطوير اختبارات فعّالة للأجسام المضادة، وتأكيد العلاقة بين الأجسام المضادة والمناعة لمرض فيروس كورونا 2019، ستصبح عودة النشاط الاقتصادى أكثر قابلية للتحقق. ومن الأهمية بمكان أيضا النظر فى تتبع المخالطين، وهو النهج الذى ساعد فى الحد من انتشار الفيروس فى أجزاء من آسيا، مثل سنغافورة، وكوريا الجنوبية.
ولا شك أن التوصل إلى علاج أو لقاح من شأنه أن يغير كل شيء. ولكن حتى فى أفضل سيناريو، قد يستغرق اختبار أى عقار جديد وحصوله على الموافقة عاما ونصف العام.
وإذا ظل النشاط الاقتصادى كاسدا بشدة طوال هذه الفترة، فسوف يتأكد وضع الركود الحالى على أنه الأسوأ على الإطلاق منذ أزمة الكساد العظيم فى ثلاثينيات القرن العشرين.
ولكن هناك أيضا سيناريو أشد تدميرا: التعافى المطول على هيئة حرف W، الناجم عن فشل القادة السياسيين فى الانتباه إلى دروس التاريخ.
ويبدو من المرجح بشكل خاص أن نشهد خطأين سياسيين مؤثرين أشبه بالأخطاء التى ارتكبت فى فترة ما بين الحربين العالميتين.
ويتمثل الخطأ الأول: أظهر العديد من القادة، بداية من الرئيس الأمريكى دونالد ترمب، ميلا خطيرا إليه بالفعل، فى إعلان “الانتصار” على الفيروس قبل الأوان، والتخلى عن تدخلات الصحة العامة، والسماح بموجة ثانية من الإصابات بالعدوى، وهذا هو ما حدث خلال جائحة الإنفلونزا الإسبانية قبل قرن من الزمن. ضربت الموجة الأولى الولايات المتحدة فى أوائل عام 1918، وكانت الموجة الثانية فى سبتمبر من عام 1918 أشد فتكا، واستمرت الموجة الثالثة حتى عام 1920.
فى الواقع، لم تستمر تدخلات الصحة العامة للفترة الواجبة، فقد نجحت سان فرانسيسكو فى خفض معدل الوفيات بما لا يقل عن 25% وهو أعلى معدل بين المدن الأمريكية، ولكن بدلا من تعزيز التزامها بتقديم التدخلات، دفع هذا النجاح المدينة إلى إلغاء القيود فى نوفمبر؛ مما سمح بنشوء موجهة ثانية من العدوى أشد فتكا فى ديسمبر ويناير.
وتشير تقديرات الأكاديمية الوطنية للعلوم إلى أن مدينة سان فرانسيسكو ربما كانت لتتمكن من خفض عدد الوفيات بنسبة 95% لو أبقت على قواعد التباعد الاجتماعى لفترة أطول.
وربما يتخلى القادة السياسيون أيضا عن التحفيز الاقتصادى قبل الأوان وهو الخطأ الثانى الذى قد يؤدى إلى ركود مزدوج على هيئة حرف W، وتُظهِر الأحداث التى وقعت فى الفترة 1936-1937 فى الولايات المتحدة إلى أى حد قد يكون هذا القرار مدمرا.
فى عام 1936، وفى خضم حالة من الشعور بالرضا عن التقدم فى التعافى من الكساد الذى بدأ قبل سبع سنوات، ذهبت إدارة الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت إلى كبح الإنفاق الفيدرالى وزيادة الضرائب.
وفى ذات الوقت، عمل مجلس الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى على إحكام وتشديد السياسة النقدية، فقرر مضاعفة متطلبات الاحتياطى للبنوك وبحلول عام 1937، انتكس الاقتصاد الأمريكى إلى الركود الشديد، الذى دام حتى عام 1938.
وارتكب صانعو السياسة الأمريكية خطأ مشابها بعد الأزمة المالية العالمية فى عام 2008 حيث نجح برنامج التحفيز المالى الذى أقره الرئيس باراك أوباما فى فبراير 2009، جنبا إلى جنب مع التوسع النقدى من جانب بنك الاحتياطى الفيدرالى، فى إيقاف السقوط الحر الذى انزلق إليه الاقتصاد، وبدأ التعافى فى شهر يونيو من ذلك العام، ولكن فى عام 2011، بعد سيطرة الجمهوريين على الكونجرس الأمريكى، تقرر إنهاء التحفيز المالى قبل الأوان، وهو الأمر الذى تسبب فى إعاقة التعافى بشكل كبير.
وينبغى لصناع السياسات فى كل مكان أن يتذكروا قاعدة بسيطة: لتجنب ركود مزدوج على هيئة حرف W، يجب أن يذكرنا هذا الحرف بخطأ “الانسحاب” المبكر من تدابير الصحة العامة والتحفيز الاقتصادى.
وكما أظهرت أزمات سابقة، ينبغى لنا أن نتجنب أى اقتراح من هذا القبيل كما نتجنب الطاعون.
بقلم: جيفرى فرانكل، أستاذ تكوينات رأس المال والنمو فى جامعة هارفارد
إعداد: رحمة عبد العزيز
المصدر: موقع “بروجيكت سينديكيت”